كنت أحلم وأنا أسكن في أمريكا أنّني سآخذ معي فريق تصوير ليوثّق زيارتي الأولى للقدس بعد أن أحصل على الجنسية الأمريكيّة، حيث أنّ جواز السّفر الأمريكيّ هو وسيلتي الوحيدة التي تسمح لفلسطينيّة مثلي مولودة في الكويت ولا أهل لها في فلسطين بزيارتها.
حصلت على الجنسيّة الأمريكيّة فأصبح لدي جواز السّفر الأمريكيّ وألهتني مشاغل الحياة فلم أتمكّن من زيارة القدس لسنوات عدّة حتّى قال لي أخي الصّغير علي تعقيباً على رغبتي بزيارة المغرب: لم لا تزورين فلسطين التي تحاضرين عنها طول الوقت في أمريكا بدلاً من زيارة المغرب؟
وهذا ما كان...
أخذت التكسي من باب منزل والدتي في جبل عمان في السّاعة الثّامنة والنّصف صباحاً و قد نسيت يومها أن آخذ كيساً من السّاندويتشات أعدّته أمّي لي وكأنّني ذاهبة في رحلة مدرسيّة. أوصلني التّكسي إلى معبر جسر الملك حسين ونزلت أسوة بالبقيّة الذي جاء بعضهم بسيّاراتهم الخاصّة والبعض الآخر بباصات عموميّة. لنكمل الطريق مشياً على الأقدام من الجزء الأردنيّ للمعبر إلى باصات تنتظرنا لنقلنا إلى الجزء الإسرائيليّ.
جلس بجواري رجل يبدو أنّه في السّتينات من عمره، بدأ بسؤالي إن كنت ذاهبة لأزور أهلي في الضّفة، فأجبته بأنّ لا أهل لي هناك وحاولت اختصار الكلام معه لأنّني كنت أريد أن التهم الطّريق إلى القدس وأخزّن كل لحظة وكل همسة وأن أستمتع بكل ثانية أمرّ بها خلال زيارتي الأولى للقدس.
ولكنّ الرّجل ازداد فضوله وسرعان ما قال لي أنّني لا بدّ وأن أكون مهاجرة وأنّ جواز السّفر الأجنبيّ هو الذي سمح لي بهذه الزيارة، فقلت له نعم.
الرجل: ما نوع جواز سفرك وكيف حصلت عليه؟
كان الموضوع قد بدأ يلفت اهتمام رجل آخر جالس إلى يمين الرّجل في القسم الثّاني من الباص، أدركت وقتها بأنّني لن أنعم بأيّ هدوء إلاّ إذا كنت صارمة مع الرّجل وقطعت عليه باب الحديث وهو أمر لا أجيد فعله أبداً! لكنّ لهفتي على احتواء لحظة عبور نهر الأردن كانت أقوى بكثير من كل آداب الحديث واللّباقة فقلت للرجل باقتضاب: أرجوك لا أستطيع التّحدث وأنا في باص لأنّني أصاب بالدّوار. أدرت وجهي نحو الشّباك وكنّا قد بدأنا نعبر جسراً قديماُ وفي أسفله مياه شككت بأنّها ربّما تكون مياه نهر الأردن لأنّها كانت ضحلة جداً وبالكاد كنت تستطيع رؤية مياه تكفي لأن يطلق عليها اسم نهر.
هكذا مرّت لحظات العبور إلى الجانب الآخر من الحدود بثوان لم أستوعبها كاملة. توقّف الباص فجأة وطلبوا من الجميع النّزول والوقوف خارجاً تحت أشعة الشّمس وذلك ليقوم مجنّدون إسرائيليّون صغار بتشييك أوراقنا الثّبوتيّة وجوازات سفرنا.
أخيراً، وجهاً لوجه مع مجنّد إسرائيليّ مسلّح بمسدّس على خاصرته ورشّاش على كتفه ووسائل اتصال وقمع اخرى يقلّب جواز سفري ويسألني عن سبب زيارتي لأجيبه أنا بدوري: للسّياحة!!!
تمّ التّشييك على أوراقنا جميعاً ثم ركبنا الباص مرّة أخرى وسار بنا مسافة قصيرة ليتوقّف أمام مبنى مكوّن من طابق واحد يبدو عليه القدم وكانت الأرض القاحلة الصّحراوية تحيط بنا من كلّ جانب وكان هناك طوفان من البشر متجمعين حول شيء ما لكنّني لم أستطع تمييز ما هو بسبب الزّحام.
كنت أجرّ حقيبة صغيرة وتوجهت بها نحو باب الدّخول فأشار لي الحارس بالذهاب إلى حيث الطّوفان البشري لأسلمهم حقيبتي!
وكيف سأجدها فيما بعد؟
فأجابني بأنّني سأجدها بانتظاري على الجانب الآخر إذا سمحوا لي بالدّخول.
كان النّاس يحملون عدّة حقائب سفر ثقيلة وكبيرة الحجم وقد أخذت محاولة تسليم حقيبتي الصّغيرة لأيّ عامل كي يمرّرها عبر التّفتيش الإلكترونيّ وقتاً وجهداً كبيرين بالرّغم من صغر حجمها وكدت أن أصاب بكدمات جسديّة بسبب تدافع الناس ولعدم وجود طابور أو نظام تسليم للحقائب.
دخلت أخيراً إلى غرفة مكيّفة وبها طابور منظّم واحد للرّجال وآخر للسّيدات وكنت قد فرحت بالتّفرقة بين الرّجال والسّيدات بهذه اللحظة لأنّ كلّ منّا سيمرّ الآن عبر جهاز آلي للتّفتيش وليس هناك حاجة للتّدافع.
لا أدري ماذا حدث ولكنّني كنت أقف خلف سيّدة ترتدي ثوباً طويلاً وحجاباً أبيضاً وكانت تحاول إقناع المفتّشة بأنّها وضعت كلّ حاجيّاتها على شريط تفتيش الحاجيّات والمفتّشة تصرّ بأن على السّيدة خلع جميع ما ترتدي من مجوهرات ومصوغات ذهبيّة قبل المرور على جهاز غريب يدخله الإنسان ثم تقفل الأبواب عليه ويرشّ بغاز ما.
كنت أحمل جواز السّفر الأمريكيّ بيدي وكنت أحاول التفكير بأيّ عذر كي أستخدمه لعدم المرور خلال هذا الجهاز حيث أنّني كنت قد قرأت بأنّ غازاته التي تحاول اقتفاء أثر وجود موادّ متفجرّة على جسم الإنسان مضرّة بالصّحة ولكنّني لم أكن أريد المغامرة برفضي دخوله ومن ثم منعي من عبور الحدود.
تلفتّ إلى يميني فوجدت مجنّدة إسرائيليّة تشير لي بيدها وتقول لي باللّغة الإنجليزيّة وهي تبتسم: أعطني جوازك ومرّي من هنا. مررت من الجهاز الآلي التّقليديّ الذي نراه في كلّ مطارات العالم، ابتسمت المجنّدة وأعادت الجواز لي فمشيت على عجل مبتعدة وكانت السّيدة الفلسطينيّة التي قد تكون مولودة في فلسطين وغادرتها لزيارة أقارب لها في الأردن لا تزال تقف وخلفها طابور طويل من السّيدات بينما مررت أنا هكذا بكلّ بساطة.
دخلت إلى قاعة متوسطة الحجم بها أقسام كالّتي نراها في المطارات للتّحقّق من جوازات السّفر وكان كلّ قسم له عنوان مختلف مثل لمّ الشّمل، الأجانب، وهكذا... فاتّجهت إلى قسم الأجانب فوقفت وراء شباب صغار السّن كأنّهم طلاب جامعات.
وقفنا بعض الوقت وسلّيت نفسي بالاستماع إلى حوار يدور بين طالبين، أحدهما أمريكيّ والآخر أوروبيّ لا أذكر من أيّ بلد تحديداً.
الامريكيّ للأوروبيّ: هل هذه زيارتك الأولى؟
الأوروبيّ: نعم، أنا هنا لأذهب إلى رام الله لأرى ما الذي يحدث هناك.
الأمريكيّ: إيّاك أن تقول هذا لرجل الجوازات وإلاّ سيحرمك من الدّخول.
الأوروبيّ: أعلم هذا، لقد نبّهني أصدقائي الذين زاروا فلسطين لأن أقول بأنّني قادم لتعلم اللّغة العربيّة في القدس والصّلاة في الكنائس.
الأمريكيّ: هل لديك عنوان مدرسة ورسم دفع المصاريف؟
الأوروبيّ: بالطّبع ها هو، هل تعرف هذا العنوان؟
الأمريكيّ: أعتقد أنّه عنوان حقيقيّ، هذه ثالث مرّة لي في فلسطين وأنا أسكن في رام الله لديّ عائلة فلسطينيّة في مخيّم وأدرس الإنجليزيّة بمقابل السّكن وأكتب عن مشاهداتي ولكن باسم مستعار.
الأوروبيّ: هذا بريدي الإلكتروني لعلّنا نتقابل في رام الله إذا سمحوا لنا بالدّخول. فلنتوقف عن الحديث الآن وإلاّ شكّوا بأنّنا مع بعضنا البعض.
كنت أودّ أن أسلّم عليهما وأقول لهما: باسم العروبة والوطنية والإنسانيّة والفلسطينيّة، أخجلتمونا...
ثم جاء دوري أمام مجنّدة إسرائيليّة يبدو عليه أنّها بعمرهما...
لماذا تريدين زيارة إسرائيل، سألتني المجنّدة الإسرائيليّة على حدود جسر الملك حسين؟
أجبت: للسّياحة!
المجنّدة: هل لديكِ أقارب هنا؟
أنا: لا، ليس لديّ أيّ أقارب!!
المجنّدة: كيف لا يكون لديكِ أيّ أقارب وتريدين أن تأتي هنا للزّيارة، أين ستسكنين؟
أنا: لديّ حجز في مدينة القدس وتحديداً في فندق القدس.
المجّندة: أريني الحجز؟
أنا: لقد قمت بالحجز عبر الأنترنت لأنّ لديهم موقع إلكترونيّ وليس لديّ شيء أقدّمه لكِ لأثبت هذا، لكن يمكنك أن تكلّمي الفندق بالهاتف لتتأكّدي.
المجنّدة: أين تعيشين الآن؟
أنا: في أمريكا
المجنّدة: منذ متى؟
أنا: منذ ١٧ عاماً.
المجنّدة: وماذا تفعلين هناك؟
أنا: أدرّس في الجامعة.
المجنّدة: ماذا تدرّسين؟
أنا: علاقات دوليّة.
المجنّدة: أريني تذكرة العودة لأمريكا.
أنا: لا يوجد معي تذكرة لأنّها تذكرة إلكترونيّة.
المجنّدة: كيف تأتين لإسرائيل دون أن تكون تذكرة عودتك لأمريكا معك؟
أنا: لأنّني لن أغادر إلى أمريكا من إسرائيل فلم أحضرها معي، عموماً يمكنك الدّخول عبر الانترنت على إحدى مواقع التّصفح وابحثي عن ( (DELTA كي تشاهدي التّذكرة.
أخذت منّي المجنّدة جواز السّفر وقالت لي انتظري هنا...
بعد مرور ثلث ساعة تقريباً، جاء مجنّد، كانت الأحداث تأخذ مجراها تماماً كما حدثني أحد طلابي الأمريكيين والذي أوصاني أن أجيب أيّ محقّق بنفس الأجوبة تماماً ولا أغيّر في أيّ إجابة، وهذا ما فعلته.
ثم جاءت أيضاً مجنّدة غامقة البشرة لغتها الإنجليزيّة ليست بالجيدة وأعادت عليّ جميع الأسئلة السّابقة وزادت عليها...
المجنّدة: هل ستذهبين لرام الله؟
أنا: لا، لن أذهب. سأبقى في القدس.
المجنّدة: وماذا ستفعلين في القدس؟
أنا: سأصلّي في الأقصى وأزور الكنائس وماسادا.
المجنّدة:نعم؟! ماذا قلتِ الآن؟
أنا: ألا يوجد معلم تاريخيّ سياحيّ اسمه ماسادا؟
المجنّدة: نعم، يوجد ولكن لماذا تريدين زيارته؟
أنا: لأنّه من ضمن الرّحلات السّياحيّة المقترحة لكل من يزور القدس.
توقّفت وقالت لي انتظري هنا، فعادت المجنّدة الأولى لتسألني: كم تريدين المكوث هنا؟
قلت بأنّني يجب أن أعود إلى الأردن خلال ستّة أيّام وطلبت منها أن لا تختم جواز سفري بختم الدّخول الإسرائيليّ. فسالتني: لماذا، إنّه جواز سفر أمريكيّ؟
أنا: لأنّني أريد زيارة بلاد عربيّة وقد لا تسمح لي بالدّخول إذا كان جوازي عليه الختم الإسرائيليّ.
المجنّدة: أيّ بلاد عربية؟
أنا: قائلة لنفسي، أمّا ورطة!! لم أفكّر بهذه الإجابة. فقلت لها: هل سمعتِ عن الحج؟
قالت لي: نعم، أعرف عنه!
فقلت لها: هناك حجّ صغير اسمه عمرة ربما أذهب لتأديتها العام القادم.
قدّمت لي جواز السّفر ولم أنتبه أنّ به ورقة، والتفتت المجنّدة للشخص الذي ورائي وقالت له هيا تقدّم.
أنا: عذراً، ماذا أفعل الآن؟
المجنّدة: هل معك حقيبة سفر؟
أنا: نعم، معي حقيبة صغيرة.
المجنّدة: هيّا، اذهبي واستلميها.
أنا: من أين؟
المجنّدة: اذهبي إلى يمين هذا الكشك واستلميها.
أنا: وماذا أفعل بعد هذا؟
المجنّدة: ألم تقولي انك تودّين زيارة القدس؟ اذهبي إليها.
حاولت إخفاء ابتسامة بدأت تسيطر على كياني كلّه وبدأت أشعر بالتّوتر الشّديد وأنا أدعو الله بأن يسهّل عبوري لهذه المسافة القصيرة عبر حاجز حديدي صغير دون مواجهة أيّ عائق وأن أصل للقدس بسرعة وبسلامة...
عبرت الحاجز الحديديّ لأجد أفواجاً من المسافرين مصطفين لاستلام حقائبهم. لا أدري كيف ميّز رجل التّفتيش حقيبتي وسلّمني إيّاها بسرعة، بعدها توّجهت نحو خط التّفتيش لكنّه أشار لي بأن أذهب للخارج فلم أتفوّه بكلمة وجررت حقيبتي وأنا أحاول أن أكون طبيعيّة دون أن أتباطأ أو أسرع خلال عبوري الباب الآلي الأخير الذي يقف بيني وبين مدينة القدس!!!
شكرت ربّي وأنا أحاول تهدئة نفسي وأفكّر، ماذا الآن؟ أين هي القدس؟ إنّ ما أراه أمامي عبارة عن صحراء وتاكسيات وباصات نقل صغيرة!!!
وجدت رجلا يبيع في إحدى الأكشاك فسألته كيف يمكنني الوصول للقدس؟ قال لي بأنّ أجرة التاكسي حوالي المائة دولار والباص الصّغير بحوالي ربع هذا الثّمن. ركبت الباص الذي يتّسع ربما لأثني عشر راكباً فقط وبه مكيّف هواء وفي غاية النظافة. أعلن السّائق لحظة امتلاء الباص بأنّه يجب علينا ربط الأحزمة جيداً لأنّ المخالفة مرتفعة وسيتحملها الراكب المخالف.
لسبب لا أعرفه، كان معظم الرّكاب من السّيدات وما أن تحرّك الباص حتّى استخدم كلّ الرّكاب هواتفهم النقّالة ليعلنوا خروجهم من المعبر وليحدّدوا ساعة وصولهم إلى وجهة سفرهم.
كان الباص يقف بين الحين والآخر كي يقوم بتنزيل ركّاب على الطريق، نزل جميع الركاب إلى أن بقيت الراكبة الوحيدة الجالسة في الباص. شعرت وقتها بأنّنا لا بدّ وأن نكون قد اقتربنا من القدس حيث بدأت برؤية أسواراً قديمة والطّريق أصبح أكثر تعرّجا وكأنّني في منطقة اللّويبدة في العاصمة عمّان. فجأة توقّف الباص في منتصف شارع رئيسيّ وكان على طول الشّارع من جهة اليسار سوراً عالياً. تيقّنت بأنّها أسوار القدس العتيقة التي غنّت لها فيروز وأنّ المسجد الأقصى خلفها لكنّني لم أره أو أرى مسجد قبّة الصّخرة. تناول سائق الباص عنباً من صديق له وقال لي إنزلي هنا هذا آخر الخط.
قلت له بأنّني ذاهبة لفندق القدس ولا أدري أين هو، قال لي أنّه على أعلى هذه التّلة بعد موقف الباصات وناولني عرقاً من العنب ووضعه بيديّ دون أن ينتظر منّي رفضه أو قبوله.
الفندق عبارة عن منزل قديم أثريّ تملكه عائلة مقدسية مسيحيّة، حاول ابن المالك المستحيل من أجل أن لا تصادره إسرائيل وكانت تفرض عليهم ضرائب وغرامات ليتخلّوا عن ملكية المنزل فقرّر تحويله لفندق للمحافظة عليه ولم يغيّر شيئاً واحداً في هندسته.
كانت حجرتي مربّعة بها دولاب خشبيّ لم أشاهد مثله إلاّ في المتاحف، بالإضافة إلى سريرين ومكتب أثريّ للكتابة. كانت جميع الجدران مبنيّة من الحجر المقدسيّ المشهور والسّقف عالٍ يتدلّى منه ثريّا بسيطة جداً وقديمة. وكان الشّيء الوحيد المناقض لقدم الغرفة هو وجود مكيّف للتّبريد لونه أبيض ومعلّق قرب سقف أحد الجدران. أمّا الحمام فكان أبيض شديد اللّمعان وبه دش الاستحمام مياهه باردة وأخرى ساخنة وجميع معدّات الحمام حديثة الصّنع عدا الجدران والتّمديدات.
ذهبت إلى حديقة الفندق علّني أتحدّث مع من ينصحني بما يجب فعله ومشاهدته فوجدت لوحة معلّقاً عليها مجموعة رحلات تغادر من الفندق يومياً. احترت ولم أدرِ ماذا أختار فعدت لغرفتي لآخذ قيلولة، يبدو أنّني نمت بعدها لأستيقظ على رنين هاتفي الجوال وكانت والدتي تطمأنّ عليّ من الأردن وقالت لي بأنّ أحد أقربائنا سيمرّ عليّ خلال ربع ساعة.
مرّ الرجل فعلاً خلال ربع ساعة وأخذني بسيّارته في جولة إلى معظم أنحاء القدس وأنا أكاد لا أصدّق نفسي من الفرحة وحظّي الجميل بأنّني بصحبة شخص ولد ويعيش ويعمل في القدس وكان يحدّثني عن التاريخ والحجارة والشّوارع وأنا أصغي له باهتمام...
دعاني الرّجل غلى العشاء مع عائلته ووالديه دون أن يترك لي مجال للرّد بالقبول أو الرفض تماماً كما فعل سائق الباص عندما أعطاني العنب. توقّف أمام مخبز وعاد ببضعة أكياس من الورق وذهبنا لمنزل والديه وبدأ بتحضير العشاء أمامنا ونحن نحتسي الشّاي.
كانت الأكياس مليئة بالكعك المقدسيّ الشّهير المدوّر والرّقيق الذي طالما سمعت عنه. بدأ الرجل بحشو نصف دائرة من الكعك ببيضة مسلوقة باردة، وهذه من أكثر الأطعمة التي لا أستطيع تذوّقها وهي باردة، أضاف قطعة فلافل فوق البيضة وناول والدته أوّل كعكة فرفضت تناولها قائلة الضّيفة أولاً! قلت لها بأنّني لا أحبّ البيض المسلوق وخاصّة بارداً فضحكت وقالت لي هذا ليس كأيّ بيض، هذا بيض القدس المطبوخ في فرن على صاج الرّوث المدخّن.
لم يكن أمامي خياراً آخر حيث أنّها فعلت تماماً كسائق الباص وكابنها، حيث أنّها فتحت يدي ووضعت الكعك بها وأقفلت أصابعي عليها. تناولت أول لقمة من الكعك الذي لم أذق في حياتي ألذ وأشهى منه لأجد نفسي قد التهمتها كلّها. كنت أودّ وقتها طلب كعكة أخرى لكنّني خجلت.
عدت للفندق وصحوت ثاني يوم استعداداً للذّهاب للأقصى ومسجد قبّة الصّخرة.
نزلت إلى حديقة الفندق لتناول طعام الإفطار واخترت الجلوس تحت عريشة العنب لأتفيّأ بظلّها الذي كان يغطّي معظم أجزاء الحديقة. كان يجلس إلى يميني رجلاً وزوجته يبدو أنّهما من بلد أجنبيّ يتناولان طعام الإفطار ويقرآن كتباً سياحيّة تتحدّث عن مدينة القدس، وكان يجلس إلى يساري رجلاً أجنبيّاً أيضاً منغمساً بالكتابة فتخيّلته صحفيّاً. جائني النّادل وسألني بالإنجليزية ماذا أريد أن أشرب، فنظرت إليه متعجبة وقلت له بالعربيّة أريد شاي بالنعناع الأخضر!
قال لي النّادل بأنّ الإفطار عبارة عن بوفيه مفتوح وأنّه موجود إلى اليمين عند الدّرجات الحجريّة القديمة، فذهبت إلى حيث أشار لي ونزلت الدرجات وأنا خافضة رأسي كيّ لا أضرب السّقف المنخفض ودخلت ما يشبه المغارة فوجدت بوفيه الإفطار الذي احتوى على أصناف أجنبية وأخرى عربية مثل الجبنة والزيتون والزعتر والمربّى وخبز الصّاج وأنواع بيتيّة شهية أخرى لم أستطع مقاومتها.
لم يكن طعم الشّاي أو الزّيتون أو مربّى المشمش والتوت أو الخبز و الجبنة أو الزعتر مع الزيت كطعم أيّ شيء ذقته في حياتي ولا أعتقد أنّ الطّعم كان مختلفاً بسبب اختلاف الأرض مثلاً عمّا اعتدت عليه في أيّ بلد آخر، ما كان مختلفاً هذه المرّة هو المكان، أنا في مدينة القدس التي طالما سمعنا فيروز تتغنّى بها وطالما شاهدنا صورها على التلفاز وفي نشرات الأخبار وكتب التّاريخ فتهيّأ لي بأنّ أيّ شيء آكله وأشربه هنا لا بدّ أن يكون طعمه مختلفاً!
جاء النّادل ليأخذ الحساب وكلّمني بالإنجليزية مرّة أخرى فقلت له ألم تلاحظ يا أيخ أنّني عربيّة بل فلسطينيّة أيضاً؟ فقال لي أعتذر، فقد ظننتك غير فلسطينيّة فنحن لم نعتد أن يزورنا العرب فكما ترين حولك فقط الأجانب هم من يزورون القدس!
خرجت للشّارع هائمة على وجهي دون هدف ولا أدري كيف أخطّط لقضاء يومي في ربوع القدس، وما إن مشيت بضعة خطوات واقتربت من موقف الباص حتّى لاحظت جموعاً من النّاس تمشي بخطى سريعة جداً من كلّ حدب وصوب.
كان المنظر عجيباً وغريباً وكأنّني أشاهد فيلماً خيالياً عن الفضاء الخارجيّ لأنّ جموع الناس كانت تمشي على عجلٍ وكأنّها رجالٌ آلية مبرمجة حيث لا أحد يحادث الآخر فما كان منّي إلّا أن كلّمت الرّجل الذي صحبني يوم أمس في رحلة ليليّة سياحيّة حول مدينة القدس لأسأله عمّا يجري فأجابني: أنت بالقرب من باب العامود واليوم الجمعة، فعودي بسرعة للفندق وأحضري جواز سفرك وملابس الصّلاة واذهبي فستشاهدين منظراً لم تشاهديه في حياتك من قبل.
عدت بسرعة للفندق ثمّ توجّهت لباب العامود الذي عادة ما نراه في نشرات الأخبار وهو مدجّج بجنود إسرائيل ولكنّ الوقت كان لا يزال مبكراً فلم أر العديد منهم. دخلت أسوار القدس العتيقة لأرى محلات على اليمين وعلى الشمال تبيع الخضراوات والفاكهة واللّحوم والبهارات والملابس والخزف والآثار والتّحف وأخرى لتصليح الأحذية ومطاعم حمص وفلافل وأيّ شيء يخطر على بالبال. كان هناك أيضاً سيّدات يفترشن الأرض، واحدة تبيع أشتال النعناع وكأنّها أحضرتها من حديقة منزلها وأخرى تبيع بضع حبات من البصل وثانية تبيع بضع حزمات من الجرجير واكتشفت فيما بعد أنّهن سيّدات جئن من الضّفة للاسترزاق من ضيق الحال وبيع ما زرعنه في منازلهن.
أخرجت كاميرا التّصوير وبدأت أصوّر كلّ ما يقع عليه نظري وكان أصحاب المحلات يقفون خارجاً ويتحدّثون معي بالإنجليزية كي أدخل محلاتهم، فلم أبال بالرّد عليهم حيث لفت نظري الجلّ الذي يغطّي شعرهم وما يرتدونه من بناطيل الجينز الممزقة مثل آخر صرعات الموضة العالمية وتعجّبت أنّها وصلت للقدس. بقيت أصوّر حتّى صرخ في وجهي رجل أمن وقال لي بعربية ركيكة "أوكف أوكف".
فقلت له وأنا أحاول إخراج جواز سفري كي أثبت ما أقوله بأنّني عربية وأريد الذّهاب للأقصى، فقال لي: "أنت واقفة على المدخل وأعرف أنّك مسلمة ولكنّك لا تستطيعين الدّخول دون ملابس الصّلاة".
انزويت جانباً وارتديت ملابس الصّلاة ثم أدخلني رجل الأمن لباحة الحرم.
كان أوّل ما لفت نظري وجود غرف في يسار الباحة، كلّ غرفة عبارة عن مقبرة صغيرة بها مثلاً جثمان فيصل الحسيني وأحمد حلمي عبدالباقي الذي كنت أعرف ابنته رحمة الله عليها حقّ معرفة، ثمّ شاهدت مسجد قبّة الصّخرة وهو يشبه تماماً الصّور إلاّ أنّ لونه أكثر زرقة في الواقع وكان حوله العديد من السّيدات والأطفال، ثمّ توجّهت إلى الأقواس التي نشاهدها كثيراً في نشرات الأخبار وكانت لسبب لا أعرفه هي اللّحظة التي أيقنت فيها أنّني الآن في القدس في حضرة المسجد الأقصى.
نزلت السّلالم وأنا أصوّر، فمكثت وقتاً لا بأس به وسمعت رجلاً بقربي يهمس ويقول لي أرجوكي اذهبي من هنا. فأنزلت الكاميرا وقلت له أنا فلسطينيّة وأريد أن أصلّي في الأقصى، فقال لي بصوت هامس: لا يمكن الآن لأنّه مخصّص للرّجال فقط، اذهبي لمسجد الصّخرة لأنّه مخصّص للنّساء وعودي بعد الصّلاة. نظرت لليمين فوجدت ما لا يقل عن ألف رجل يقفون استعداداً للصّلاة ونظرت إلى جهة اليسار ووجدت عدداً مماثلاً. شعرت بالحرج الشّديد لأنّني لم انتبه أنّه لا يوجد في المكان امرأه واحدة غيري!
أسرعت باتّجاه مسجد الصّخرة لأتفاجأ بامتلاء المكان وبعدم وجود بقعة واحدة يمكني الصّلاة بها تحت الظّل إلاّ مساحة صغيرة جداً بجوار مجموعة من السّيدات في السّاحة المواجهة للمسجد فحشرت نفسي فيها.
فجأة، جاء رجلاً يرتدي ملابس أمن لكنّه لم يكن مسلّحاً وهو يصرخ في اللاسلكي بيده: "شفتها شفتها لابسة أخضر" ووقف بجانبي وهو يصرخ "قومي تعالي". تلفتنا جميعاُ إلى سيّدة في الأربعينات من عمرها وتبدو أنّها أجنبيّة، فقالت له برعب شديد وبعربية ركيكة جداً: "أنا مسلم أنا أقرأ الفاتحة" واستمرّ بالصّراخ وهو يقول لها: "باسبور باسبور" فهمّت السّيدة بفتح حقيبتها لكنّها السّيدة التي بجواري هجمت على رجل الأمن وصرخت به قائلة: "هل هذا أسلوب تحكي به مع سيّدة".
تفاجأ الرّجل لوهلة ثم صرخ مجدداً: "باسبور باسبور" لكنّ سيّدة أخرى كانت قد قبضت على حقيبة المرأة الأجنبية لتمنعها من إظهار جواز سفرها ونهرت رجل الأمن وقالت له: "صوتك وأسلوبك سيجعلها تترك الإسلام، ابتعد واذهب وإلا سترى ما سنفعله بك". كنت والسّيدة الأجنبية في حالة ذهول ليس من رجل الأمن بل من رعبه من السّيدات ومن جرأتهم، فرحل عنّا كما جاء وشاهدنا رجلاً يرتدي ثوباً ويضع عمامة على رأسه يمشي بسرعة محاطاً برجلين من كل طرف وتبيّن لنا أنّه خطيب الجمعة.
بدأت خطبة الجمعة وكان الحرّ وأشعة الشّمس قوية فبدأت أتصبّب عرقاً حيث قلت رقعة الظّل. كنت أول الأمر أجلس على البلاط الحار لأنّه لم يخطر على بالي إحضار سجادة الصّلاة وتمنيت أن لا تكون الخطبة طويلة لأنّ ظهري بدأ يؤلمني ولأنّ أشعة الشّمس تضرب فوق رأسي، بدأت أصغي إلى كلام الخطيب وهو متحمّس وكان صوته قد بدأ بالانفعال قائلاً: "أتدرون ما هو اليوم؟ أتدرون أنّه في مثل هذا اليوم حدثت محاولة إحراق الأقصى؟! أتدرون من دافع عنه؟!
لم يكن هناك أيّ داعٍ ليقول حرفاً واحداً آخراً، لأنّني وجدت نفسي أنفجر بالبكاء هكذا فجأة دون سابق إنذار. بدأت أنتحب وفي تلك اللّحظة رنّ جرس تلفوني وأجبت وأنا أحاول السّيطرة على نفسي وإذ هي أختي دينا من مصر تقول لي أين أنت؟ أنا قلقة عليك... أجبتها بصوت منخفض بأنني في مسجد قبّة الصّخرة أثناء خطبة الجمعة، فقالت لي: "لماذا تبكين؟ هل المكان مؤثّر لهذه الدّرجة؟! أقفلت الخطّ في وجهها واستمرّيت بالبكاء والنّحيب لأنّني تذكّرت كيف رمقت الشّباب المقدسيّ وكم خجلت من نفسي لأنّني لم أر إلاّ شعرهم وجينزهم لا شجاعتهم وصمودهم ودفاعهم عن مقدّسات ملايين البشر من خارج القدس.
بكيت من فقر السّيدات الذين لم يمدّوا يدهم لسؤال النّاس وآثروا بيع بضع وريقات من النّعنع على عتبات السّور القديم، بكيت من شجاعة السّيدات اللواتي دافعن عن السّيدة الأجنبيّة وحقّها بالصّلاة في رحاب مسجد قبّة الصّخرة، بكيت من تشقّقات قدمي السّيدة التي تجلس بجواري والتي أعارتني جزءاً من سجّادة صلاتها لأجلس عليها، بكيت من غلاء كاميرتي ومن رفاهية فندقي ومن خذلان كلّ عربيّ ومسلم آثر صرف أمواله خارج أسوار القدس. بكيت من عدم تقديرنا لهؤلاء النّاس وعدم فهمنا أنّهم أهل الرّباط، وأنّهم من يموتون كلّ يوم للدّفاع عمّا أقرأه أنا وأمّة محمد في القرآن الكريم. لم أبكِ خشوعاً بل خجلاً