حلّقت الطّائرة فوق أراض منبسطة تتماوج ألوانها بين درجات الأخضر الغامق جداً إلى الفاتح فالأفتح، بعدها ظهر البحر ذو اللّون الأزرق الصّافي والداكن كزيت الزيتون. بدأت الطّائرة بالهبوط وبدا لي كأنّها ستهبط فوق مياه البحر، فجأة ظهرت الأرض المنبسطة ورأيت رجلاً يلبس قميصاً أزرق قرب مدرّج هبوط الطّائرة، ارتطمت عجلات الطّائرة بعنف على المدرّج ومرّت ثوانٍ قبل أن نتأكّد من هبوط الطائرة بسلام حينها صفّق العديد من الرّكاب الكوبيين. شاهدت من نافذة الطائرة العديد من الرّجال بقمصان زرقاء فعرفت أنّهم أمن المطار المدنيّ، واقتربت الطّائرة من مبنى صغير جداً مكوّن من طابق واحد مكتوب عليه مطار سينفيجوس الذي ذكّرني بمطار ماركا في الأردن.
جرّ رجلان سلّماً حديدياً متهالكاً لم أر مثله منذ الطفولة. تقدّمت سيّدة من السلّم تلبس حذاءً ذا كعب عال جداً وتنورة تكاد لاتستر شيئاً مع جواربَ نايلون سوداء مزركشة، رفعت يديها ليمرّر عليها الأمن آلة تفتيش كهربائية من الأمام ومن الخلف ثمّ صعدت السّلّم الى باب الطّائرة وسلّمت للمضيـفة بضعة أوراق ثم نزلت السّلّم ففتّشها الأمن مرّة أخرى وبعدها أذن لنا بالنّزول. لفحني الجوّ الحارّ الرّطب ونزلت بحذر على السّلّم الحديديّ المتهالك الذي جعلني أشعر وكأنّني جزء من فيلم عربيّ قديم وأنّ مريم فخر الدّين تنتظر في المطار قدوم حبيبها. بعد بضع خطوات على أرض المطار، تلفّتّ حولي فالتقت عيناي مع عينيّ سيّدة أمريكيّة من ضمن المجموعة المسافرة معنا وقالت: لا أصدّق أنّني هنا، لا أصدّق أنّني أخيراً في كوبا، فقلت لها وأنا كذلك أيضاً! بعد بضع خطوات أخرى، دخلنا مبنى المطار المكيّف لنجد أنفسنا في غرفة صغيرة فيها أربع نوافذ للجوازات، كان الجميع يقف على الدّور والرجل ذو المسدس إلى جانبه كان يرشدنا إلى أين نذهب، فجاء دوري وأعطيت مسؤولة الجوازات جواز سفري وورقة أذن لزيارة كوبا. ابتسمت السّيدة وقالت: “كويت، كويت، كويت”، وطرقت مفاتيح الكمبيوتر ومرّرت الجواز على آلة إلكترونيّة ثمّ ختمت عدّة أوراق أمامها ولكنّها لم تختم جواز سفري وناولتني إيّاه وتمنّت لي إقامة سعيدة في كوبا…
كنت أتمّنى لو أنّها قامت بختم جواز سفري لأحتفظ بالختم كذكرى؛ ولكنّهم لا يفعلون هذا مع المسافرين القادمين من أمريكا! ضغطت السّيدة على زر وفتحت لي الباب لأجد أمامي آلة تفتيش شبيهة بالّتي تكون عادة قبل المغادرة وليس بعد الوصول للبلد، ولفت نظري شدّة قصر ملابس السّيّدات والكعوب العالية والجوارب النايلون السّوداء والمزركشة بالورود وكثرة مساحيق التّجميل وكأنّهن يعملن في فندق وليس في مطار حكوميّ.
وصلت حقيبتي متأخّرة، كان جميع أعضاء مجموعتنا قد ركبوا الحافلة السّياحيّة واستغربت أنّ موظف الجمارك لم يسأل عن محتوى الحقيبة كما توقعت حدوثه في بلد اشتراكيّ، لكن يبدو أنّ التّفتيش عن الحاجيات لم يكن مهمّاً مثل المخدّرات حيث كان هناك رجل يرتدي ملابس لاتوحي بأنه شرطيّ ويبدو وكأنّه يعمل في المطار يدور بكلب بين الحقائب.
غادرت الحافلة المطار الصّغير جداً بعد أن انضمّت مرشدة سياحية كوبيّة إلى مجموعتنا لون بشرتها داكن جداً كالأفارقة وتتكلّم الإنجليزيّة بطلاقة. بدأت تستعرض المدينة اسمها وتاريخها وكان جميع الرّكاب مبهورين بمشاهدة البيوت القديمة والنّاس الذين ينتقلون من مكان إلى آخر مشياً على الأقدام والسّيارات الأوروبيّة والأمريكيّة الكلاسيكيّة والقديمة وعربات الخيل المتوسطة الّتي تتسع لعشرة ركّاب.
وسرعان ما شاهدنا أشجار موز وحشيش أخضر في كلّ مكان وشمس ساطعة وسماء زرقاء ومقبرة تبدو وكأنّها من أيّام الرّومان، كلّ ذلك جعلنا نشعر بأنّنا عبرنا إلى قارّة أخرى في أقلّ من خمس دقائق فقط منذ تركنا المطار.
ذكرت المرشدة واسمها ماجاليتا أن مدينة سينفويجو كانت مركز صناعة السّكر وكانت تلقّب باسم لؤلؤة كوبا وأنّ فرنسيّاً هو من بدأ إعمار هذه البلد في القرن الثامن عشر. وفجأة ضغط السّائق على الفرامل بسرعة وتوقّف الحافلة السياحية؛ يبدو أنّ عربة يجرّها حصان كانت تسير أمامنا وسقط الحصان خلف العربة على الأرض لكنّه تمالك نفسه وعاد ووقف، كان واضحاً من نحوله الشديد وشكله البائس أنّه يفتقر إلى الطّعام وقالت مارلين – وهي مربيّة خيول ومن نفس بلدتي في فلوريدا- “إنّ جميع الأحصنة التي رأيناها حتّى الآن تعاني من سوء التّغذية”، ولم نكن عرفنا السّبب بعد.
ثم بدأت الحافلة بالتّحرك، على ناصية الطّريق لفت انتباه جميع الرّكاب لوحة إعلان سوداء ضخمة وعليها كلمة مكتوبة بأحرف كبيرة باللون البنّي وأعتقد أنّها تقول (هيرو) ولم تكن هناك صورة أو رسم. كانت مجرّد حروف كبيرة لهذه الكلمة، لاحظت ماجاليتا أنّنا ننظر للّوحة فقالت لنا: “سترون الكثير من اللّوحات الإعلانيّة في جميع أنحاء كوبا وهي عبارة عن أقوال مشهورة لكاسترو وغيره من قياديي الثّورة”. ذكّرني هذا بسوريا ولبنان عندما زرتهما في التّسعينيات وصدمت عندما رأيت أقوالاً مأثورة لحافظ الأسد على لوحات إعلانيّة وأخرى مكتوبة على ورق قماش تملأ عرض الشّارع وكانت من أغرب الأشياء التي شاهدتها في لبنان ذلك الصّيف.
مررنا قبل وصولنا للفندق بعدّة فلل جميلة للغاية تبدو جميعها مهجورة وعرفنا فيما بعد أنّ هذه بيوت الأغنياء الذين كانوا يعيشون في كوبا قبل الثّورة. كنّا نرى طرف البحر بلونه القرمزيّ السّاحر من الفراغات بين الفلل وسرعان ما اتّجه الباص إلى اليمين وشاهدنا مبنى يبدو وكأنّه مستشفى ذو ست طوابق ويطل على البحر ولكنّه كان فندقنا، كان محاطاً بالعديد من الورود المزهرة بألوان مختلفة فخفّفت الورود من رتابة شكل الفندق. وما إن عبرنا البهو حتى استقبلتنا فرقة موسيقيّة كوبيّة تعزف موسيقاهم المبهجة.
لم تكن غرفنا جاهزة فأخذونا لمطعم الفندق من أجل تناول وجبة الغداء الذي كان خياراً ما بين السّمك أو اللّحم أو الدّجاج واخترت أنا طبق اللّحمة. سرعان ما أحضر النادل طبقاً صغيراً من السّلطة به شرائح طماطم وخيار مقطّعة بصورة دائرية رقيقة السّمك ومبشور فوقها كمية من الملفوف وأحضروا لنا خلاً وزيتاً لإضافته إلى السلطة، ولعلّها كانت من أطيب السّلطات التي أكلتها منذ فترة طويلة لطعمها الطبيعيّ الطازج حيث أنّ ما يباع في محلاتنا في أمريكا من طماطم وخيار بالرغم من منظرها الجميل الذي يشبه البلاستيك فهي لا طعم لها لأنّها تقطف مبكّراً جداً وتمرّر على غاز كي تكتسب اللّون الجميل.
وجاء طبق اللّحمة رقيقة السّماكة وكأنّها ورقة سيجارة وكانت مطاطيّة بعض الشّيء عسرة المضغ ولكنّ طعمها كان جيداً، وجاء معها قليل من الأرز الأبيض والملفوف المقطّع إلى شرائح وصلصة فوق اللّحمة أعتقد أنّها كانت بصل حلو مقطّع ومطبوخ مع قطع صغيرة من الفلفل الأحمر الحلو.
ربما تستغرب كقارئ لماذا أفصّل كثيراً في وصف الأكل ولكنّك ستجد أنّ لهذا علاقة كبيرة بالوضع السّياسيّ الحاليّ لكوبا وما تواجهه من مشاكل بسبب الحصار الاقتصاديّ الأمريكيّ وآثار انهيار الاتّحاد السّوفيتيّ على اقتصاد كوبا. ويسمّي الكوبيون فترة التّسعينيّات التي عانوا فيها من قلة المساعدات المالية التي كانت تأتيهم من الدول الاشتراكية بالفترة المميّزة! قالت ماجاليتا: “إنّ أيّ مواطن في أيّ دولة أخرى يستخدم كلمة مميّزة ليصف شيئاً جميلاً أو مناسبة سعيدة، لكن بالنسبة لنا هذه الكلمة تصف أصعب فترة مررنا بها منذ قيام الثورة؛ لأنّ الاتّحاد السّوفيتيّ أوقف شحنات الوقود لكوبا فأصبحنا نعاني من انقطاع الكهرباء وبدأنا نسير على الأقدام أو نستخدم المواصلات العامة فقط.
استلمنا مفاتيح غرفنا بعد انتهاء الغداء وكان مفتاحي عبارة عن كرت أبيض لا توجد عليه صورة الفندق أو اسمه بينما كرت صديقتي سوشيلا مكتوب عليه اسم فندق آخر غير موجود في كلّ جزيرة كوبا وكرت مفتاح صديقة أخرى عليه اسم فندق أوروبيّ، وعرفنا أنّ من ضمن تأثير الحصار الاقتصاديّ على كوبا هو عدم توفر المفاتيح الإلكترونيّة ولذا يستخدم فندقنا أيّ كرت يمكن الحصول عليه حتى لو كان عليه اسم فندق أمريكيّ كهليتون مثلاً.
كانت غرفتي في الطّابق السّادس في ممرّ مفتوح على البحر والمنظر كان خلاباً وخاصّة مع وجود فيلا بديعة على الطّراز الأندلسيّ قرب الفندق مباشرة وأراها كلما غادرت الغرفة. ما إن دخلت غرفتي حتى خيـّل لي أنـّني عبرت إلى عهد الخمسينيات لأنّ كلّ شيء فيها من الطّراز القديم ولكن في حالة جيدة جداً. فالسّرير بالكاد يرتفع عن الأرض والطّاولة الجانبيّة رفيعة الأرجل وكذلك طاولة المرآة والتي شاهدت مثلها في جميع الأفلام القديمة غير الملوّنة، لم يكن هناك سجاد على الأرض أو لوحات أو أيّ شيء يوحي بأنـّنا في القرن الحادي والعشرين سوى تلفزيون صغير الحجم ويعمل بجهاز التّحكّم عن بعد (الريموت كنترول).
وفي الغرفة حمام واسع به مساحات فارغة غير مستغلّة بوضع خزانة مثلاً، كانت هناك منشفتان كلّ واحدة عليها اسم فندق أمريكيّ مختلف عن الآخر ولفّة ورق تواليت واحدة من نوعية رديئة وصابونة مغلـّفة واثنتان غير مغلفتين صغيرتي الحجم وتبدوان وكأن ربّة منزل صنعتهما في منزلها.
تملّكني شعور بالفرح من الغرفة وشعرت أنـّني لا أزور بلداً بل أعيش تاريخاً له عبق ورائحة وأنا ألمسه في كلّ شيء حتّى في أثاث الغرفة. فأنا لست مقيمة في فندقٍ متواضعٍ في بلد من بلاد العالم الثالث بل بالعكس، أنا أقيم في أفضل فندق في المدينة وكان هذا هو أقصى ما تستطيع أن تقدّمه المدينة تحت نظام الاشتراكيّة وفي ظلّ المقاطعة وهو ما كنت أذكـّر به نفسي طوال الوقت بأنـّني لست في بلد تعاني من الفقر كأيّ من بلدان إفريقيا بل أنا في بلد تعيش تحت نظام سياسيّ مختلف وتمرّ تحت ظروف الحرب الباردة التي انتهت منذ مدّة في العديد من من أنحاء العالم ولكنّها لا تزال تستعرّ في كوبا.
ارتحنا في الغرف لأقلّ من ساعة تقابلت بعدها مع صديقاتي في بهو الفندق لنخرج، وتصرّفنا كالسّياح تماماً وبدأنا نتفقّد محلات بسيطة تبيع تذكارات مصنوعة من الخشب وبعض المجوهرات المصنوعة من الفضّة وبطاقات بريديّة وبوسترات وقمصان عليها صور تشي غيفارا، وكتب بعدّة لغات ومن ضمنها الإنجليزيّة وكانت معظم الكتب إمّا عن تشي غيفارا أو كتب كتبها هو وقلّة من الكتب كانت عن كاسترو وبعض آخر من الكتب لها علاقة بأمريكا وكان من الممكن أن أشتري كلّ الكتب الإنجليزية لرخص ثمنها ولكنني اشتريت اثنين فقط، الأوّل عنوانه حوار مع كاسترو عن الدّين والثّاني كان عنوانه العدالة العالمية، التّحرّر والاشتراكيّة لتشي غيفارا ثم اشتريت بلوزة قطنية عليها الرّسمة المشهورة لوجه غيفارا.
سألتني السّيدة التي باعتني البلوزة وبتردّد شديد إذا ما كنت أريد كيساً لأضعها فيه، واستغربت من سؤالها وتردّدها وسرعان ما فهمت عندما رأيتها تخرج كيساً يتّسع لجمل وبدأت تقلـّب فيه وتديره وتحاول أن تقصّه بالمقصّ ليتّسع للبلوزة. خطر ببالي عندها أنّ من ضمن الأشياء المفقودة في كوبا هي أكياس النايلون فقلت لها لا داعي للكيس ووضعتها في حقيبة يديّ وحصل نفس الشّيء عندما اشتريت الكتابين ولكن هذه المرّة أخرج الرجل كيساً يبدو أنـّه استهلك مئات المرات وكان مخروماً وستقع منه الكتب فقلت للبائع لا داعي للكيس واضطررت للصّعود إلى الغرفة لأضع فيها مشترياتي.
تجمّعنا كفريق سياحي للتجوّل في المدينة وركبنا في حافلة أكبر من التي ركبناها من المطار وهي من صنع الصّين وحديثة ومجهّزة بكل وسائل الرّاحة ونزلنا من الحافلة بعد عدّة دقائق في الشّارع الرئيسيّ لبلدة سينفويجو وتوقفت جميع السّيارات لتسمح لنا بعبور الشّارع وكان التمثال الذي أتينا لمشاهدته يقع في منتصف الجزيرة التي تفرّق بين الاتجاهين المختلفين للشّارع. التّمثال كان لأشهر موسيقيي البلدة واسمه (بينيس موريه) وهو متميّز بأغانيه وشعره ومؤلفاته، وشدّدت ماجاليتا على أنّ موهبته نابعة من داخله وأشارت الى صدرها وقلبها لتشرح لنا ماذا تقصد وأكـّدت على أنّ موريه لم يتخرّج من المدرسة أو المعهد الموسيقي.
كان معظم أعضاء الوفد السياحي يحدقون بالمارّة وبالسّيارات القديمة التي كانت تسير على جانبي الجزيرة أكثر من التمثال، لأنّ كلّ شيء كنّا نراه كان يبدو غريباً غير مألوف. ثم عبرنا الشّارع مرة أخرى وسرنا باتجاه أحد متاحف المدينة لنستمع لفرقة الكورال.
تأخـّر بعضنا في اللّحاق بباقي المجموعة فتوقـّفت ماجاليتا تنتظر وصدف أنـّها توقفت أمام محل قديم وواسع بعض الشيء وذكـّرني كثيراّ ببعض محلات القاهرة في وسط البلد التي لا تزال موجودة حتى الآن وخمّنت أنّ المحل قد يكون صيدلية بالرغم من أنـّها تبدو فارغة من الأدوية.
وقفنا على عتبة المحلّ أو الصّيدلية وقالت ماجاليتا: “إنّ الحصول على الدواء في الفترة المميّزة كان شبه مستحيل ولذا أنتم ترون أنّ الصيدلية فارغة من الأدوية” وشرحت لنا ماجي أنّ العلاج والدواء في كوبا مجانيّ وأنّ الحكومة باتت تدقّق كثيراً في عملية منح الدواء لأنـّها اكتشفت أنّ الناس يبيعونه للسّياح كتجارة رابحة لأنّ سعر الدواء المماثل في أمريكا يكون عادة مضاعفاً. طلبنا أذناُ بالدّخول إلى الصيدلية لالتقاط بعض الصور، لم تمانع الصيدلانيّة فأخذنا صوراً للرّفوف الفارغة ولبعض علب الدواء وللوحات توضّح كيف أنّ الأعشاب الطبيعيّة يمكنها معالجة الصّداع وألم الأسنان والضّغط والسّكري مثل الدّواء تماماً وكيف أنـّه يمكن الاستغناء عن الدواء. الزبونة الوحيدة الموجودة في الصيدلية كانت سيدة شديدة النحول على وجهها كلّ علامات البؤس والفقر.
ثم مررنا بما يسمى بمحلّ محدّد الأسعار شبيه بما يسمّى في أمريكا بمحل الدّولار الواحد، أي أنّ ثمن أيّ شيء في المحل دولار واحد، وهو أيضاً محل قديم على حاله منذ أن بني هو أيضا شبيه بمحلاّت كنا ندخلها في مصر في وسط البلد في أواخر السّبعينات. كان ينام أمام المحل كلب في متوسط العمر ويبدو نحيلاً كباقي الكلاب التي سنرى الكثير منها في كلّ مكان، والعجيب في أمر هذه الكلاب المنتشرة في المدينة أنـّها تبدو من عمر واحد ووزن واحد مع اختلاف ألوانها وأشكالها والغريب أيضاً أنّها لا تقترب أبداً منـّا ونحن نجول الشوارع وكأنـّها تعلم أنّـنا سياح فلا تجوز مضايقتنا.
وشاهدت خلال طريقنا إلى المتحف أكبر صالون شعر رأيته في الغرب وهو مكوّن من صالة واحدة مستطيلة الشّكل وتوجد كراسي تصفيف وغسل الشّعر على طول المستطيل إلاّ جهة الواجهة فتشعر أنّ المكان ومن فيه من أناس وكراسٍ وأدوات يجب وضعهم في متحف بل هم أعضاء متحف ولكنّه حيّ ويتحرّك أو ربما ركبنا بآلة رجوع الزّمن إلى الوراء ونشاهد أناساً من الماضي أو ربما نحن نشاهد لقطات فيلم يمثّل أمامنا محاكاة الماضي ولكنه يبالغ في التّفاصيل.
ونظام صالون الشّعر غريب مثل كثير من الأشياء في كوبا فالزّبائن يحضرون شامبو غسيل الشّعر ومليّن الشّعر ومثبّت الشّعر والصّبغة وأيّ مستحضر نستخدمه عادة عند حلاّق ومصفف الشّعر إلى الصّالون ويقدّم المحلّ المقصّ والفرشاة والماء وآلة تجفيف الشّعر. وأجمل ما فيه هي الكراسي القديمة جداً والتي نشاهدها عادة في الأفلام القديمة الغير ملوّنة.
هذا هو الإحساس الذي سيغمرك طوال الوقت وأنت في المدن الكوبيّة الصّغيرة، أنّ الزمن توقّف أو أنـّك تشارك في تمثيل فيلم قديم فالسّيارات قديمة جداً ولكن تبدو أنـّها في حالة جيدة جداً ميكانيكياً لأنـّها لاتطلق أيّ دخان أو أصوات عالية وتسير بكلّ سلاسة بسبب قلّة قطع الغيار التي ترغم الميكانيكيّ على الإبداع والابتكار. والغريب أنّ الكثير من هذه السّيارات أمريكيّة الصّنع وكلاسيكيّة وجميلة وألوانها برّاقة وأراهن على أنّ مئات الأمريكان سيدفعون أثمانا باهظة لاقتناء هذه السيارة إذا سنحت لهم الفرصة لذلك. وبالطبع كان هناك أيضاً بعض السيارات الأوروبيّة.
وتسير هذه السّيارات الجميلة إلى جانب عربات تتّسع لأكثر من عشرة أشخاص وتجرّها الخيول على نفس الشّوارع الرّئيسة والفرعيـّة بكلّ تناغم وانسجام وبكلّ نظام ودون سرعة عالية ودون وجود شرطيّ لينظـّم السّير.
تابعنا سيرنا على الأقدام حتى وصلنا إلى مبنى جميل ذي معمار هندسيّ قديم وكان منزل عائلة كوبيّة غنيّة صودر بعد الثّورة وتحوّل إلى متحف تملكه الحكومة وحالته كحال معظم المباني التي شاهدناها حتّى تلك اللحظة بحاجة لعملية ترميم مثل طلاء الجدران وإعادة محابس الكهرباء المتدليّة من أماكنها في الحائط.
جلسنا على مجموعة من الكراسي المصفوفة خلف بعضها البعض كأنـّنا في مسرح ودخل عشرة شبان يرتدون القميص الأبيض الكاريبيّ أو الكوبيّ الذي يتميـّز بوجود أربع جيب اثنتين في الجزء العلويّ واثنتين في الجزء السفليّ من القميص الذي يحوي أيضاً ثلاث خطوط مقلـّمة من القماش، يربطون بين الجيب العلوي والجيب السفلي من كلّ جهة من القميص.
وكان معهم عشر بنات يلبسن فساتين طويلة جميلة بلون السّكّر غير النقيّ وغنـّت فرقة الكورال عشر أغانٍ متنوعة دون استخدام الموسيقى معتمدين على طبقات صوتيّة يتفاوتون في حدّتها ونوعيتّها وقوّتها بحيث تخال أنـّك تستمع لعزف موسيقى مرافق للمغنيين، لفت نظري تعدد ألوان بشرة أعضاء الفرقة فهناك مغنٍّ شديد السّواد وآخر فاتح السّواد وآخر حنطيّ واثنان من الشّباب عيونهم زرقاء ويبدوان من أوروبا وآخر يبدو فيلبيّنياً وكذلك حال البنات وجميعهن لديهن شوائب في البشرة كحبّ الشباب أو آثاره محفورة على الوجه بتفاوت من مغنيّة لأخرى ولم تكن هناك واحدة منهنّ تمتلك بشرة جيّدة وصافية وناعمة كعادة الكثير من الأجانب.
كما لفت نظري أنّ المغنيّات كن يلبسن صنادل مزيّن بعضها بأحجار لامعة وبرّاقة وبعضها الآخر مزيّنة بحلقات حديديّة وكلّ الصنادل تبدو رخيصة الثّمن ورديئة الصّنع ولكنّها تواكب الموضة العالميّة. وسنكتشف في اليوم التّالي بعد تجوّلنا في الأسواق المحليّة في المدينة أنّه لا توجد بضاعة جيّدة أبداً في السّوق وأنّ أجمل ما يمكن شراؤه هي صنادل صناعة البرازيل وأثمانها باهظة ليست في متناول ايديهم بالرّغم من بشاعتها ولذا يكتفون إمّا ببشراء أردأ ما يستوردونه من الصّين وكوريا الشّمالية أو صناعتهم المحليّة.
أنا أذكر هذه التّفاصيل لأنّها تلمس الواقع الذي يحياه الفرد في كوبا بسبب الاشتراكيّة والحصار الاقتصاديّ الأمريكيّ الذي يخنقهم إضافة إلى تأثير انهيار الاتّحاد السّوفيتيّ الذي حرمهم من معظم دخلهم القوميّ.
صفّقنا كثيراً لفرقة الكورال البديعة واشترينا أسطوانة مدمجة لمساعدتهم في توفير نفقات رحلة يخطّطون للقيام بها إلى بلدة في فرنسا للمشاركة في مسابقة غنائيّة. تساءلت وأنا أدفع هل يا ترى سيهرب أيّ منهم ويطلب حق اللجوء السّياسيّ في فرنسا؟
ثم تجوّلنا في السّاحة الرئيسة التي تضمّ تمثال هوزيه موريه الذي حارب المحتلّ الإسبانيّ في القرن الثّامن عشر وهو أهم شخصيّة يحبّها الكوبيون ويتحدّثون عنه بكلّ حبّ وفخر حتّى هذه اللحظة. كان منظرنا يثير فضول الكوبيين لأنـّه واضح أنـّنا سيـّاح ونتحدّث بالإنجليزية وبعضهم حاول الاقتراب منّا ولكنّ المرافق الأمريكيّ لمجموعتنا وهو أمريكيّ إسبانيّ ويتحدّث الإنجليزيّة بلكنة إسبانية قويـّة كان يقول لهم إنـّنا من أمريكا و وطلب منهم أن يدعونا في حالنا وان لا يتساءلوا أو يحاولوا بيعنا شيئاً. كما كانت الكلاب الضالـّة تتجوّل في السّاحة بكلّ حريّة ودون أن تزعج أحد أو يزعجها أحد إلا بضعة من الأمريكان في مجموعتنا السّياحية وخاصّة السّيدات اللواتي كنّ يحاولن الاقتراب من الكلاب وإعطائهم بعض الماء من قاروراتهم البلاستيكيّة برشّ بعض منها على الأرض وسيتكرّر هذا المشهد في كلّ مكان به كلاب ضالّة نذهب إليه.
وفجأة، تنبّهت لوجود لوحة إعلانات ضخمة جداً فوق سطح عمارة مكوّنة من بضعة طوابق وتحمل رسماً لوجه تشي غيفارا الشّهير مع بعض الكلمات بالإسبانيّة وكانت هذه ثاني لوحة أراها منذ نزولنا من الحافلة.
وسألت ماغيلتا عن سرّ وجود عدّة لوحات وصور لغيفارا و ليس لفيديل كاسترو فأوضحت لي أنّ هناك عدداً قليلاً جداً من اللّوحات التي تحمل أقوال كاسترو وصورته وعدداً نادراً جدا من التّماثيل لوجهه لأنـّه رئيس الدّولة أو على الأقل كان رئيس الدولة ولا يزال على قيد الحياة وهو لا يحبّ أن يرى صوره في كلّ مكان؛ غيفارا وغيره من أبطال الثورة ماتوا ونحبّ تمجيدهم وإبقاء ذكراهم حيّة في كلّ مكان.
كنا نقف في السّاحة والمرشدة تشرح لنا بعض الحقائق التاريخيّة عن السّاحة التي فيها حدائق وتماثيل وكراسي جلوس ومحاطة بمبانٍ بعضها جميل يمثل ما يسمّونه الكولوتيال من حيث طريقة البناء وكنيسة ذات برج طويل في حالة مزرية وتبدو بحاجة للترميم كما أنـّها مهجورة ولا أحد يستخدمها.
دخلنا إلى مقهى مسرح يطلّ على السّاحة وكنت في حاجة ملحّة لاستخدام دورة المياه. وجدت فتاة سمراء داكنة البشرة كالأفارقة ترتدي شورت جينز ضيّق بطريقة ملفتة للنّظر يصل للرّكبة وترتدي بلوزة ضيّقة بلا أكمام وتفصّل كلّ معالم صدرها البارز. استوقفتني وأنا أنوي دخول الحمام وطلبت منّي الانتظار حتّى تصبّ الماء في التواليت لتنظـّفه من من الاستخدام السّابق.
خرجت من الحمام الضيـّق جدّاً والذي به مغسلة صغيرة لا تعمل. من حسن حظي أنّـني استمعت للنصائح التي أرسلتها لنا الهيئة التعليميّة التي نظّمت لنا رحلة كوبا والتي شدّدت علينا بحمل مناديل ورق وأدوات تعقيم في حقائبنا بسبب ندرة وجود دورات مياه مشابهة للّتي في أمريكا. خرجت من دورة المياه وكنت أحمل تلفوني المحميّ بغطاء أبيض وأسود مميّز بحيث لا يمكنك معرفة نوع الجهاز الذي أحمله في يدي، واستوقفتني الفتاة وكنت اعتقد أنّها تريد بعض القروش كما أوصونا أن نفعل بعد استخدامنا أيّ دورة مياه في كوبا ولكنّها قالت لي بلغتها وهي تضمني إليها: “أرجوكِ أرجوكِ” ولم أفهم ماذا كانت تريد وجاء المسؤول عن مجموعتنا ونهرها بالإسبانيّة واتضح لنا أنّها كانت تريدني أن أريها كيف يعمل الجهاز الذي أحمله وشرحت لها أنّه تلفون فأخذته مني لتتأكّد، ثم أخذت التّلفون منها وأعطيتها كوكس واحد، وهي العملة التي يتداولها السّياح وفي بعض الحالات الكوبيون أنفسهم ولكن في حالات نادرة سأشرحها فيما بعد.
الكوكس قيمته شيء بسيط من قيمة الدّولار الأمريكيّ الواحد والذي ناولته للفتاة المسؤولة عن دخولنا دورة المياه وهو يعادل 25 بيزوس، العملة التي يتداولها السّكّان. أيّ ما يعادل خمس معاشها الشّهري، فلمعت عينا المسكينة ورطنت كلاماً كثيراً وهي تبتسم ابتسامة أظهرت أسنانها البيضاء والتي تبدو أكثر بياضاً عن حقيقتها بسبب لون بشرتها السّوداء.
عدنا مرّة أخرى الى الفندق واسترحنا لمدّة ساعة ثم تقابلنا جميعاً في البهو للذّهاب إلى العشاء وسرنا بضع خطوات من الفندق لنصل الفيلا التي أراها كلـّما خرجت من غرفتي والتي هي في غاية الجمال وبناؤها يوحي بأنّ هناك تأثير إسلاميّ حيث الأقواس والزخارف. استقبلنا على الدّرج ومن كلّ جانب تمثال يشبه تماثيل الفراعنة والتي هي عبارة عن جسم أسد يرقد على الأرض ووجه كوجه الإنسان ولكنّ الوجه كان لسيّدة وليس لرجل.
جلست إلى طاولة مستديرة تتّسع لثمانية أشخاص وكنّا نجلس في إحدى قاعات الفيلا التي تحولت إلى مطعم وكنت أعتقد أنـّني في داخل قصر الحمراء في الأندلس في جنوب إسبانيا. كانت الزخارف كلـّها من نفس الطراز الأندلسيّ الإسلاميّ وعرفنا أنّ هذا المطعم كان المنزل الشتويّ لعائلة من إسبانيا كانت شديدة الثّراء فأحضرت مهندسين وفنانين من إسبانيا ليصمّموا الجمال المعماري الذي يحيطنا من كلّ جانب في القاعة.
مالك الفيلا توفي وأطفاله صغار السّن فباعت أرملته الفيلا لرجل كوبيّ غنيّ كان يملك مزارع قصب السّكر واستولت الحكومة الكوبية على الفيلا بعد الثورة وحوّلته إلى مطعم حكوميّ، أيّ أنّ الحكومة تديره وتحدّد ما الذي يجب تقديمه من طعام وتحدّد الأسعار وكأنـّها مثل أيّ مؤسسة حكوميّة. ذكّرني هذا بطفولتي عندما سافرت وأهلي إلى يوغسلافيا وكيف كنـّا نأكل في مطاعم لا يوجد فيها خيارات عديدة من الطّعام.
كانت القاعة غير المكيّفة تعبق برائحة السّمك النّافذة الذي لا أستطيع تناوله لأنّه يسبّب لي حساسية معدية مفزعة. سألت أرنستوا إذا كان عشاؤنا سمكاً فقال: “إنّ هذا ما سيتناوله الجميع اليوم” وذهب ليسعى مع إدارة المطعم لإيجاد بديل للسّمك لي وكنت أتمنّى أن تستطيع الإدارة التّصرّف بسرعة دون انتظار موافقة هافانا.
قدّموا لنا خبزاً افرنجياً صغير الحجم وكانت هناك قطعة واحدة لكلّ فرد وزبدة مغلـّفة وقدّموا لنا السّلطة ذاتها مع الخلّ والزّيت وهي شهيّة جداً بالرغم من بساطتها، وأحضروا لي طبقاُ فيه قطعة دجاج مسحوب منها العظم لكن مع الجلد المدهن والتي بدت أنّها مقليّة والقطعة كانت من فخذ الدّجاجة وهذا أمر لا يحدث أبداً في أمريكا حيث لا تقدّم مطاعمنا إلاّ صدور الدّجاج وقد فرحت بعشائي لأنـّني لا أحبّ صدور الدجاج وكان في نفس الطبق مقدار ملعقة صغيرة من الأرز الأبيض وملفوف مطبوخ مقطّع إلى شرائح.
تعرّفت إلى السّيدة التي تجلس بجانبي واكتشفت أنّها تسكن في فلوريدا أيضاً ومن بلدة قريبة منّي وأنّ هذه أوّل رحلة لها بعد وفاة زوجها الذي عانى لمدّة خمس سنوات من مرض الزّهايمر وأنّها بحاجة إلى وقت حتّى تتعوّد على السّفر خارج أمريكا لوحدها كما قالت لي بالحرف الواحد بعد أن سألتها عن اسمها فقط.
ثم دار بيننا هذا الحديث خلال فترة العشاء:
سألتني، هل تعرفين إن كانت هذه الزخارف من العاج؟
قلت لها: لا أعرف، لم يخطر ببالي أن يكون هذا عاجاً، دعيني أسال أرنستوا.
عدت إليها وقلت: “أرنستوا يقول أنّ كلّ هذه الزّخارف مصنوعة من خشب محفور ولكن الدّهان يجعله يبدو وكأنّه من العاج.
لا أدري، ما رأيك أنت؟ قالت لي السّيدة واستطردت ولكنّني لا أستطيع طرد الفكرة هذه من رأسي، إنّني أجلس في منزل أناس حرموا منه بسبب الثّورة والسّياسة، هل تشعرين بنفس الشّيء؟
أجبتها بأنّني لا أشعر بنفس شعورك بل أنّني أعيشه!
كيف تعيشينه؟
عشته عندما ذهبت إلى اللّد حيث ولد والدي واستأذنت من السّكان زيارة الغرفة التي ولد بها أبي!
اللّد؟!
مدينة في فلسطين أو في ما اسمها الآن اسرائيل!
لكن هذه قسوة شديدة لك، كيف تحمّلت الموقف؟
كان كلّ ما يحدث لي في تلك اللّحظات أشبه بفيلم سينمائيّ وجلّ ما كنت أتمنّاه حينها هو أن أجد المنزل وأدخله وأحفظ تفاصيله في ذاكرتي ولم يكن لديّ وقت للتّفكير بأكثر من هذا، إنّنا نعيش ذلك الذي شعرت أنت به الآن في هذا المنزل منذ عام 1948، أي منذ أكثر من ستين عاماً.
قالت لي: “أريد أن اقول لك أنّ هذا ظلم وأتمنّى في يوم من الأيّام أن تعودي وتمتلكي منزلك وأنّني غاضبة ولا أستطيع استيعاب ما حدث لك وكيف تسردين القصّة لي وأنت مبتسمة وبلا كراهية أوغضب!
وعدنا للفندق لننام…