لا أدري كم عدد المحاضرات التي ألقيتها في أميركا عن الإسلام، لكنني أعتقد بأن العدد كبير جداً، حيث إنني هاجرت إليها منذ ستّ وعشرين سنة وبدأت ألقي المحاضرات بعد وصولي بستة أشهر تقريباً.
هل تدرون ما أكثر شيء يصدم الحضور في تلك المحاضرات؟
لا، ليس حقوق المرأة المذكورة بإسهاب في القرآن الكريم، رغم أن هذه الحقيقة تبهرهم..
وليس أن زوجة آدم ليست هي المسؤولة عن عصيان الله، رغم أن هذا يبهرهم أيضاً..
وليس بأننا كمسلمين نؤمن بكل الرسل وخاصة سيدنا عيسى عليه السّلام، مما يثير استغرابهم ودهشتهم..
وليس بأن هناك سورة في القرآن اسمها "مريم" وفيها قصة حياة سيدنا عيسى بدءًا من الحمل والمخاض والولادة ومعجزته عندما نطق وهو في المهد، فإن هذا يبهرهم بشدّة.
ورغم بساطة المعلومة، فإنني أرى الدهشة على وجوههم عندما أخبرهم بحقيقة أن ليس كل العرب مسلمين وأن أكثر المسلمين ليسوا بعرب..
هل لا تزال محتارًا؟
من الطبيعي بأن تكون، حيث إنني نفسي احترت وتعجبت من تعجبهم وانصدمت من صدمتهم في بادئ الأمر إلى أن فهمت..
عادة ما أبدأ المحاضرة بوصف المنطقة التي سأتحدث عنها، وهي مكة والجزيرة العربية، وعن نزول رسالات سماوية أخرى في المناطق المجاورة. ثم أنتقل بعدها إلى سيرة الرسول -عليه الصلاة والسلام- قبل نزول الوحي وكيفية زيارة الملك جِبْرِيل له. وما أن أذكر بأن أول كلمة قالها هي "اقرأ"، ألمح نظرات الاستغراب فأعيد ذكر الكلمة بمرادفاتها المتعددة باللغة الإنجليزية وأكمل المحاضرة ثم أتلقى أسئلة الحضور عن مختلف ما تحدّثت عنه.
أكاد أجزم بأنه لم تمرّ علي محاضرة واحدة لم يسألني فيها أحد: هل قلتِ "اقرأ" أم أنني لم أسمعك جيدا؟!
وللأمانة، كنت في بداية عهدي في إلقاء المحاضرات أستغرب من استغرابهم هذا وكنت أفسره بأنهم معذورون في هذا لأن الأفلام الأميركية عادة ما تُظهر الشعوب العربية بصورة سلبية ناهيك عن قصص وروايات كلاسيكية تُظهرنا كشعوب متخلفة لا حضارة لها وتمنع المرأة من التعلّم وقيادة السيارة وأن ختان الإناث ظاهرة متفشيّة في كل الوطن العربي.
لكن، لماذا ومع كل الانفتاح الإعلامي الذي شهده العالم ما زال هذا الاستغراب نحو المنطقة العربية سائداً؟
ربما لأنه ولسبب ما لم يُربط درس الدين في المدارس أو حلقات الذكر الرمضانية أو دروس الدين المنتشرة في المنازل وشاشات التلفزيون بين أول أمر أمره الله للرسول وبين الحياة اليومية للإنسان المسلم وهي القراءة بقصد المعرفة.
فلا يسمع الأميركي مثلا عن وجود أيّ تقدم علميّ مبهر أو اختراعات دوائية أو صناعية أو إلكترونية أو حتّى إبداعات روائية أو قصصية أو شعرية أو أدبية أو فنية آتية من أمّة "اقرأ". كلّ ما يسمع عنه هو عراك قديم بين السُنّة والشَيعة وكراهية أبدية لليهود يعتقدون بأنها بدأت منذ 1400 سنة وليس عند اغتصاب فلسطين. وبالطبع فإن كل ما يسمعونه عنا الآن هو الإرهاب.
ذلك أحد أهم الأسباب وراء تعجّب الأميريكيين بأن أول أمر جاء للرسول له علاقة بالقراءة والبحث والمعرفة لا بالجهاد أو القتال.
وبعيدا عن معدلات الأمية في الوطن العربي، كم يبلغ عدد المكتبات العامة في كل مدينة عربية صغيرة مثل مدينتي الأميركية؟ حيث يتواجد بها مكتبتان عامّتان ويمكنني طلب أي كتاب صادر باللغة الإنجليزية على وجه الأرض دون أن أدفع سنتاً واحداً عدا عن توفير خدمات الحاسوب وقراءة الصحف والمجلات واستعارة الكتب والأفلام والكتب الصوتية؟
كم عدد الكتب التى تُنشر سنوياً في كامل الوطن العربي؟
لكن في نظري ربما أهم شيء هو كم عدد الكتب العربية التى تُترجم إلى لغات حيّة مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصينية؟
كيف يمكن للشرق الأقصى والغرب وأميركا اللاتينية وغيرهم أن يعرفوا أي شيء عنا إذا لم تكن هناك قصص وروايات وأدب وشعر وكتب عربية مترجمة تُهدى نسخ منها لمكتباتهم العامة؟
هناك سبع عشرة ألف مكتبة عامة في الولايات المتحدة تقبل إهداءات من الكتب بالإنجليزية طالما أنها كتب لا تتحدّث عن الجنس أو تحثّ على العنف. تخيّل لو تبرّعت كل وزارة ثقافة عربية بإهداء أجمل إصدارات كل دولة إلى هذه المكتبات بعد ترجمتها إلى الإنجليزية.
هذه أمور تحتاج لميزانية هائلة لا يقدر عليها الناشر العربي الذي بالكاد يبيع الكتب التي ينشرها، وإن باعها بالكاد يحصل على ثمنها.
لم أدخل مكتبة تبيع الكتب في أميركا وأسال عن قصص نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للأداب وعرف البائع عمّن أتحدّث، بينما لو ذكرت اسم أورهان باموك أو غابريل غارسيا ماركيز الذي فاز بالجائزة قبل نجيب محفوظ بأكثر من خمس سنوات فإنه يعرف فورا عمن أتحدّث. لأنّ الفوز بجائزة نوبل لا يعني بالضرورة رواج كتب الفائز دون وجود حركة ترجمة وتسويق من البلاد التى تهتم بأن تنشر ثقافتها وحضارتها. فتتكفل هيئات ومؤسسات حكومية بهذه الأشياء ولا تنتظر الكاتب ولا ناشره ليفعلوا هذا فالقصص والرويات والكتب تعد كنزًا قوميًّا وبوابةً للوصول للعالم.
ربما أكثر ما يميز الوطن العربي هو تعدد الثقافات فيه. جميعنا يتكلم العربية، لكن هل قصة وقعت أحداثها في السودان تشبه قصة عن المغرب أو القدس أو الرياض؟ هذه التعددية والاختلاف في الطعام والملبس والعادات والتقاليد واللهجات الذي لا ننتبه نحن له ولا نعطيه حق قدره هو ربما أجمل شيء نمتلكه في الوطن العربي وسيرى الأجنبي كل هذا عبر قراءة ترجمات القصص والكتب وسيرى العالم بأنّنا لسنا كلنا من نفس الطينة والعجينة حتّى لو وحّدتنا اللغة.
فتخيلوا كبداية، لو أن وزارات الثقافة في الدول العربية ترجمت خمس قصص أطفال وخمس روايات وخمسة كتب متنوعة أخرى، وأرسلت سبع عشرة ألف نسخة من كلّ كتاب إلى المكتبات العامة الأميركية كيف سيتعرّف الأجانب على ذلك الجانب الآخر من الوطن العربي، على جمال تنوعنا وغنى ثقافتنا وحضارتنا والذي لن يعرضه الإعلام أبدا.
تخيّلوا.