عندما سمعت أن دونالد ترامب رشح نفسه للانتخابات الرئاسية الأميركية، تساءلت لماذا يُحرج رجل أعمال مفتون بالشهرة والأضواء ومعدوم الثقافة السياسية نفسه؟
كنت قد سمعت بدونالد ترامب أول مرة في حياتي منذ ستّ وعشرين سنة، عندما هاجرت لأميركا. فقد شاهدت صورته على غلاف مجلة في محل البقالة مع زوجته الشقراء إيفانا المولودة في تشيكوسلوفاكيا، والتي حصلت على الجنسية الأميركية عام 1988 بسبب زواجها منه.
كان شعره أسود آنذاك، ولا يكاد يمر أسبوع واحد دون أن أراه على غلاف مجلة، سواء وحده أو مع زوجته يتصدران عناوين الأخبار غير المهمّة، والتي لا تضيف لقارئها معلومة، عدا عن أين تعشى أو سافر أو ماذا لبس الأغنياء ذلك الأسبوع.
شعرت أن الاهتمام به وبزوجته كان مشابهاً لاهتمام الصحافة الغربية بالعائلة المالكة البريطانية أو بالأحرى بالأمير تشارلز والأميرة ديانا. ما يمكن تفسيره بأن الصحافة الأميركية كانت بحاجة لعائلة مالكة كي تتحدث عنها فلم تجد إلا ترامب وزوجته كي يشغلان ذلك الحيز على الساحة الأميركية. مما جعل أخبار حياته ابتداء من الخيانة الزوجية مروراً بتفاصيل الطلاق وتقسيم الممتلكات مادة دسمة، وإن كانت مملّة، شغلت صفحات المجلات بأدق التفاصيل والصور.
أما جد ترامب فهو مهاجر ألماني وصل لأميركا عام 1885 وعمل حلاّقاً ثم افتتح مطعماً وتنقل بين عدة ولايات في سبيل بحثه عن الرزق. وقد قام بتغيير اسمه ليناسب اللكنة الأميركية من ( فريدرش درامبف) إلى فرد ترامب. كما أنجب لنا والد دونالد ترامب والذي قابل مهاجرة إسكتلندية اسمها ماري آن فتزوجها وأنجبا خمسة أطفال بينهم دونالد ترامب مرشّح الرئاسة الأميركية الآن.
فإذا كان جد دونالد ترامب مهاجراً ووالدته مهاجرة وزوجته الأولى مهاجرة وزوجته الثالثة والحالية مهاجرة فلماذا كل هذا العداء للمهاجرين الجدد لأميركا؟
راودت ترامب فكرة الترشح لمناصب سياسية عدة مرات في السنوات السابقة ومنذ عام 1988، لكن استطلاعات الرأي لم توحِ بأن له أي شعبية، إلى أن بدأ يقدم برنامجاً تلفزيونياً اسمه "المبتدئ" والمقصود هنا الموظف الذي سيبدأ العمل في شركة ما.
وبدأ دونالد تقديم البرنامج عام 2004 واستمر في تقديمه حتى عام 2015 وفكرته هي متابعة مهارات مجموعة من المتسابقين ممن يريدون الدخول إلى عالم الأعمال ويتم التخلّص من متسابق في كل حلقة. ويحصل الفائز على وظيفة في إحدى شركات دونالد ترامب بمرتّب سنوي قدره ربع مليون دولار ولمدة عام واحد فقط.
وكان ترامب يذكر بكل برود وحزم وبشفاه مزمومة جداً "أنت مطرود" وأصبحت هذه الجملة جزءاً من التفاعلات اليومية في حياتنا في أميركا لأنها معبرة جداً!
هذا وقد نجح برنامجه لدرجة أنه تم تصميم برامج أخرى على نسقه وفي بلدان عدة وأصبح دونالد أكثر شهرة كمقدم لبرنامج تلفزيوني أكثر من كونه رجل أعمال مليونيراً. وربما تسببت هذه الشهرة بغروره وثقته الزائدة في نفسه واستمراره بأسلوب عدم التراجع أبداً عن موقف يتخذه أو إساءة علنية لشخص ما أو حتى التراجع عن كذبة كبيرة جداً تثبتها التحقيقات الصحفية مئات المرات. أشهرها كذبة أن أوباما لم يولد في ولاية هاواي الأميركية بل في كينيا.
كان ترامب أشهر وجه إعلامي يتحدث مراراً وتكراراً عن شهادة ميلاد أوباما مما فتح المجال لكل متطرف ومتعصب عنصري ضد السود بالالتفاف حول ترامب وفكرته لدرجة أنهم أسسوا منظمة اسمها بالإنجليزية "بيرثر" مشتقة من كلمة ولادة. والمقصود بأن أوباما غير مولود في أميركا فإذن هو رئيس غير شرعي حسب الدستور. ولا بد أن هذا الالتفاف حوله واهتمام الإعلام الربحي به جعله يستهوي فكرة دخول المعترك السياسي.
وهنا يحتار المحللون السياسيون في فهم وجهة نظر ترامب وإصراره على كذبته التي دفعت البيت الأبيض أن ينشر صورة كاملة لشهادة ميلاد الرئيس الأميركي الرسمية في سابقة لم تحدث قط من قبل. فهل هذا الإصرار سببه أن ترامب ضد السّود ولم يجد طريقة لائقة كي يعبر عن هذا سوى التشكيك بشرعية رئاسة أوباما؟ هل لأن والد أوباما وُلد مسلماً وترامب لا يحب المسلمين أو الديانة الإسلامية ويدري بأنه ليس من اللائق قول هذا فتحجّج بشهادة ميلاد أوباما؟
أنفق ترامب مليون دولار عام 2014 ليرى إن كان هناك أي أمل في الكسب إذا ما رشح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة. ويبدو أن النتائج كانت سيئة لأنه لم يترشح ورمى ثقله المادي وراء المرشح عن الحزب الجمهوري آنذاك ميت رومني.
وأخيرا، أعلن ترامب ترشحه في شهر يونيو الماضي متخذاً من "معاً سنجعل دولتنا عظيمة مرة أخرى" كشعار لحملته الانتخابية. غامزاً بأن أوباما هوى بها إلى الحضيض وأنه هو المنقذ الذي سيعيد أمجادها. ولم يتوقف ترامب منذ لحظتها عن إهانة الأقليات من المكسيكيين والأفارقة والمسلمين.
فلماذا كل هذا؟ هل هو عنصري ومتعصب؟ هل يميل إلى الجانب اليميني من الحزب الجمهوري؟
أغلب الظن بأنه مجرد رجل أعمال ناجح جداً لا يحب الخسارة أبداً في أي صفقة يعقدها ولا يتحمل أن يعترف بالخطأ وأنه شديد الغرور.
هذا عدا عن أنه غير مثقف على الرغم من أنه سافر إلى العالم وله مشروعات في عدة قارات. إلا أنه جاهل في علوم السياسة الدولية والتاريخ الحديث والقديم وعلم الشعوب والأديان.
وهو يعلم كيف يفكر كل المرشحين المنافسين له من الحزب الجمهوري وكيف أن آراءهم تميل إلى التيار اليميني في الحزب. أي أنهم معادون للهجرة غير الشرعية ويريدون الحد منها. كما أنهم يرحبون بتنصت الحكومة على المواطنين ولا يمانعون بزيادة حدّتها. عدا عن تأييدهم المطلق لإسرائيل فإنهم يفكرون دائماً بالحل العسكري لكل أزمة عالمية إذا كانت تخص المصلحة القومية الأميركية. فأراد ترامب بأن يتفوق عليهم فذهب إلى أقصى يمين اليمين مما جعل منافسيه يبدون وكأنهم أكثر وسطية أو الأقرب لتفكير الحزب الديمقراطي.
يناسب هذا الفكر العنصريين البيض والذين يعدون أكبر خطر إرهابي على أميركا بحسب مكتب التحقيقات الفيدرالية. بسبب تسلحهم بالأسلحة الثقيلة ولكراهيتهم للسود واليهود والعرب والمسلمين وأي شخص أسمر اللون يختلف عن جنسهم الآري. كما أنه يناسب العمال والطبقة الكادحة وعددهم كبير في أميركا والذين يؤمنون بأن المكسيكيين وغيرهم من العمال الشرعيين وغير الشرعيين يستولون على وظائفهم لأنهم يقبلون بأجور متدنية وساعات عمل أطول على عكس العامل الأميركي.
وكلّما يشعر ترامب بأن أرقام استطلاعات الرأي تنخفض تراه يتفوّه بتصريح متطرف مثل تصريحاته العنصرية الأخيرة والتي طالت المكسيكيين، السّود، والمسلمين ومن أبرزها..
فكرة طرد ما لا يقل عن ١١ مليون مكسيكي والتي فشل ترامب بأن يشرح كيف سيتم تطبيقها أو حتى كيف سيتم ملء شواغرهم الوظيفية والتي لن يقبل الأميركي بأن يعمل بها. وتصريحه بأن أكثر الجرائم ضد السود تحدث من قبل السود لا البيض وأن أكثر البيض يُقتلون على يد السود وهو أمر مخالف تماماً جداً للواقع. وتصريحه الأخير بمنع دخول المسلمين لأميركا دون تقديم برنامج متكامل عملي لكيفية حدوث هذا المنع.
إذاً، وبكل بساطة، ترامب هو مجرد رجل سطحي تافه يعشق الأضواء والشهرة، يعرف كيف يظل مشعاً تحت الأضواء التي قد تحرقه في يوم ما..