كان أول من علق على الفيلم هو مايكل موور، مخرج عدة أفلام وثائقية أمريكية قوية وناقدة وله شعبية كبيرة في أمريكا بين اليسار ومناهضي الحرب ومن يعترضون على سهولة منح تراخيص شراء السلاح.
وكان تعليق مايكل عبارة عن تغريدة تقول "عمّي قُتل بيد قناص في الحرب العالمية الثانية. درّسونا بأن القناصين جبناء وسيطلقون النار عليك من الخلف. القناصون ليسوا أبطالا. والغزاة أسوأ". وفي تغريدة ثانية تليها كتب "ولكنك إذا كنت فوق سطح منزلك تدافع عنه ضدّ غزاة جاءوا سبعة آلاف ميل، أنت لست قناصا، أنت شجاع، أنت جار".
لم يذكر المخرج مايكل اسم الفيلم ولكنك لم تكن بحاجة لأن تكون علاّمة كي تفهم بأنه يقصد فيلم "القناص" الأمريكي. أثارت تغريدة مايكل حفيظة آلاف البشر ورد الكثير بصورة عدائية وعنيفة ضد مايكل وضد أي أحد يجرؤ على نقد الفيلم أو البطل الحقيقي "كريس كايل".
تفاعل النشطاء على تويتر وبدأوا بمراقبة ما يكتبه الناس عن الفيلم بعد مشاهدته حيث لم يكتفِ البعض بالتعبير عن إعجابهم بالفيلم بل ذهبوا إلى أبعد من هذا ليعربوا عن رغبتهم بقتل العرب. تم توثيق هذه التغريدات التي طالبت بالقتل تحسبا لأي حادثة قتل ممكن أن ينفذها هؤلاء المغردون. كنت أشعر بالضيق الشديد وأنا أقرأ هذه التغريدات حيث إن معظمها كانت لشباب صغار السن، في التاسعة أو العاشرة من عمرهم، عندما وقعت أحداث سبتمبر. وتدلّ تغريداتهم بأنهم لا يعرفون أنه لا دخل للعراق بما حدث في 11 سبتمبر، وأن وجود كريس كايل القناص الأمريكي في العراق هو "اعتداء" على العراق وأنّ من حق العراقي أن يدافع عن نفسه. مما يعني بأن كل المفاهيم والحقائق مغلوطة وجاء هذا الفيلم ليعزز هذه المفاهيم على ما يبدو.
لم يعد هناك أي مجال للانتظار، فقررت أن أذهب وأشاهد الفيلم مع صديقتي سوشيلا. اخترنا حفل الساعة الرابعة عصرا، وكان حوالي ثلثي قاعة السينما ممتلئ، ومعظم الحضور من كبار السن وهو أمر غير مستغرب في مدينتنا التي يسكنها العديد من المتقاعدين.
بدأ الفيلم بمشهد لمدينة تبدو أنها عربية ومن المؤكد بأنها في العراق لأنك تستطيع، عن بعد، مشاهدة آثار الدمار فيها. وكان الضوء الذي ينبعث من الشاشة خافتا ويمكنك سماع صوت الآذان آتٍ من بعيد. تمر المشاهد بطيئة لتنبئك بقدوم أحداث مثيرة أو درامية، وفجأة تظهر مدرّعة أمريكية هائلة الحجم ومجموعة من الجنود يسيرون بحذر شديد حولها في شارع به آثار حرب. ثم تنتقل الكاميرا بلقطة أخرى تتابع فقط سير جنزير الدبابة والذي يطحن، بعد ثوان قليلة، حجارة إسمنتية وكأنها ترسل رسالة مضمونها بأننا نطحن من يحاربنا ونسحقه. بعد ذلك، يظهر مشهد لماسورة طويلة وهي بندقية القناص بطل الفيلم. يظهر القناص وهو مبطوح على بطنه مرتديا قبعة، لا علاقة لها بلباس الجيش، وفوقها نظارة سوداء كالتي يرتديها الرياضيون وعيناه موجهتان واحدة على عدسة البندقية وأخرى على العالم من حوله وبجواره جندي صغير يمزح معه.
بعد لقطات سريعة يظهر رجل يصعد لسطح أحد المباني فيتأهب كايل "القناص" ويضع إصبعه على الزناد، ليرى الرجل يتحدّث على هاتفه الخلوي ثم يعود من حيث أتى وتنتقل الكاميرا إلى باب المبنى. وهنا تبدأ اللقطة الأشهر في الفيلم والتي ستبرر كل القتل سواء في هذا الفيلم أو حرب العراق عموما وأي حروب أخرى لأمريكا في المنطقة.
واللقطة هي لامرأة ترتدي العباءة السوداء وتمسك يد طفل صغير نحيل لا يتعدى عمره التاسعة وترى عين زرقاء تنظر من خلال عدسة مكبرة لبارودة كبيرة تفهم أنت كمشاهد بأنها عين القناص التي ترصد الفتى وأمه. وهنا، يدور حوار قصير بين القناص وزميله عن صعوبة اللحظة وكيف أنه سيعاقَب لو أخطأ في الحكم على الهدف وقتل طفلا أو امرأة أو الاثنين معا. ويحاول كايل ألا يرتبك وأن يضبط إيقاع حركته بحيث لا يتسرّع ولا يتباطأ. ثم يبعد الولد قليلا عن أمه بعد أن تُناوله قذيفة، عندها نسمع صوت طلقة نار ولكن اللقطة التالية تنقلنا فورا إلى عالم آخر.
إلى حياة القناص في أمريكا عندما كان طفلا وعندما أطلق النار على حيوان في الغابة. ثم وهو في الكنيسة مع عائلته ممسكا إنجيلا صغيرا لونه كحلي، وسيرافق هذا الإنجيل كايل طوال أحداث الفيلم. وأنت كمشاهد لا تحتاج الكثير من الخيال كي تربط بين صوت الآذان ومشهد جنزير المدرعة وحرص كايل على أن يكون دقيقا في إصابة الهدف وبين وجود القذيفة بيد الطفل وبين قتل الحيوان في الغابة وحمل الإنجيل في الكنيسة. وستفهم القصة ومنطق الفيلم وما يريدك أن تفهم دون الدخول في الكثير من التفاصيل..
وقصة الفيلم هي قصة مواطن أمريكي انضم للجيش بعد تفجير السفارة الأمريكية في نيروبي كي يدافع عن بلده ثم ذهب بعدها لآخر الدنيا، للعراق، كي يقتل عددا هائلا من العراقيين الذين لو لم يقتلهم لقتلوا الجنود الأمريكيين بحسب الأحداث والحوارات في الفيلم.
أوحى الفيلم بأن سمعة كايل جيدة جداً بين أوساط الجنود الأمريكيين وخاصة بأنه حقق أكبر رقم رسمي لعدد "القنص" وهو مئة وستون قنصة رغم أن كايل يصر بأنه قنص مئتين وخمس وخمسين مرة.
إن كنت كمشاهد جاهلا بالتاريخ الحديث أو أنك تعاني من بوادر الزهايمر فستخرج من دار السينما ناسياً بأن منظمة القاعدة وليس صدام حسين هي من قامت بالاعتداء على أمريكا.. ستخرج من دار السينما مقتنعاً بأن المواطن الأمريكي إنسان جيد ومسالم وأن كل هذه الحروب فُرضت عليه وأن لا علاقة له من بعيد أو من قريب بحدوث تلك الحروب.. ستخرج من دار السينما وأنت موقنا بأن حرب العراق كانت حربا دينية لا جذور سياسية لها وستتناسى كل الأكاذيب والادعاءات عن وجود أسلحة دمار شامل ستهدد أمن العالم إن بقيت تحت تصرف صدام حسين.. ستتناسى أيضا بأن العقوبات الاقتصادية على العراق لم تقتل مئات الآلاف من البشر.. وأن اليورانيوم المخصب لم يؤثر لا على البيئة ولا على المواليد الجدد.. وأن التعذيب والاعتداءات الجنسية في سجن أبو غريب لم تحدث قط..
لذلك، عد لبيتك بعد مغادرتك دار السينما وضميرك مرتاح ولا تغضب من حكومتك لأنها ذهبت لبلد تبعد سبعة آلاف ميل عنك. بل ربما عليك أن تشكرها على ذلك وأن تنضم أنت بدورك للجيش وتذهب وتقاتل الهمج في البلاد البعيدة.
لا يذكر الفيلم أبدأ بأن صدام حسين ليس له علاقة بأحداث سبتمبر، لكنك كمشاهد ستفهم هذا ضمنياً بسبب ذكر الاعتداءات على السفارات ثم أحداث سبتمبر ثم الحديث عن القاعدة في العراق. وكأن القاعدة كان مقرها العراق، وكأن القاعدة خططت لكل هذه الهجمات، من العراق، تحت مسمع ومرأى صدام حسين.
وتأتي براعة كلينت إيستوود كمخرج عندما يجعلك كمشاهد ترى "البطل" القناص الأمريكي بعدّة أدوار. فهو كايل الإنسان العادي، الحبيب والزوج والأب، هو كايل المقاتل الوطني والشجاع والحذر. وهو الجريح الذي تركت الحرب آثارها النفسية عليه. تراه بعدّة أدوار مثله مثل كل البشر، له محاسنه وله مساوئه.
جسّد كايل دور البطل الذي اضطر أن يقتل الطفل وأظهرت المشاهد عدة لقطات تصور كايل وهو يتعذب من ضميره ومن قلبه الكبير ومن إنسانيته وغضبه بأنه وُضع في هذا الموقف الصعب. على عكس ما تم تصوير أهل العراق عليه، حيث إنك وطوال الفيلم لن تشاهد أي رجلا أو امرأة أو طفلا أو طفلة من العراق لديه مسحة من الجمال أو الأناقة أو النظافة أو الإنسانية أو التحضر أو الثقافة، وكأن العراق عبارة عن دولة يسكنها همج...
خرجت وصديقتي سوشيلا من السينما وتوجهنا للسيارة ونحن في حالة وجوم. قالت سوشيلا شيئأ، سنكتشف لاحقا بأنه أمر مهم جداً، قالت سوشيلا: "الأمريكيون الذين لا يعرفون شيئا عن تاريخ بلادهم القذر، هذا هو اللفظ الذي استخدمته، في العراق وسيوجهون غضبهم عليكم".
علينا؟ من تقصدين؟
"أنتم، عرب ومسلمي أمريكا".
قررت أن لا أكتب عن هذا الفيلم حتى أقرأ كتاب كايل، فذهبت للمكتبة ولم أشترِه بل أمضيت ثلاث ساعات أتصفحه وأغرد عنه.
كايل الحقيقي المذكور في الكتاب يختلف عن كايل الذي شاهدته في الفيلم. كايل الحقيقي عنصري وجاهل. أي أنه غير قادر على فهم السياسة الخارجية لبلده ودورها في غزو وتدمير وقتل وتشريد أهل العراق. وكان يظن أن العراقيين يكرهون الأمريكان بلا سبب سوى أنهم همج لا يقدّرون طيبة وحسن نوايا أمريكا تجاههم. فمثلا، يذكر في كتابه عن اللقطة الشهيرة في الفيلم وعن قنصه لامرأة فيقول: "هي كانت شديدة العمى بسبب الشر الذي يسيطر عليها، أرادت الموت للأمريكيين بأي ثمن... طلقتي أنقذت حياة عدة أمريكيين، وحياتهم أثمن من الروح المشوهة لتلك المرأة... سأقف أمام الله بضمير مرتاح لأنني قمت بواجبي، ولكنني أكره، وبكل قوة، الشر الذي تمثله هذه المرأة ولا أستطيع نسيانه".
ولعلك أيها القارئ لم تفهم ما يقصده كايل، فيكتب في كتابه في سياق الحديث عن هذه المرأة "همج وشر مقزّز، هذا ما كنا نحارب في العراق، ولهذا ألقّب أنا وغيري "العدو" بلقب "همجي"".
أما السرّ وراء كراهية العراقيين للأمريكيين ورغبتهم قتلهم بأي ثمن فهو: الإسلام... نعم، الإسلام... هذا ما كتبه القناص في كتابه.
الإسلام هو سبب الكراهية، لا السياسة مثلا.. ولا غزو العراق، ولا الديمقراطية.. ولا النفط.. ولا أي شيء آخر من ذلك القبيل...
وفي هذا السياق يتحدث كايل مقارناً بين الجنود الأمريكيين المسيحيين وبين أهل العراق المسلمين فيقول: "إنني أعلم بأن هنالك تاريخا من الحروب الصليبية، لكننا تطورنا كدين وتوقفنا عن قتل الآخر والذي يختلف دينه عن ديننا... الناس في العراق يكرهوننا لأننا غير مسلمين. يريدون قتلنا، رغم أننا خلصناهم من دكتاتور، لأننا نمارس دينا غير دينهم".
قرأت هذه الجملة وأنا في المكتبة لوحدي ولا أكاد أصدق بأن هذا الإنسان العنصري والمغيّب فكريا يعدّ بطلا في أمريكا. ومما زاد الطين بلّة أنه وبعد عودته من العراق قُتل على يد جندي آخر يعاني من الآثار النفسية لحرب العراق، مما جعله أسطورة في أمريكا. وجعل زوجته تكمل مشواره وتُبقي ذكراه حية فتجوب الولايات الأمريكية متحدّثة عن عظمة ما يقدمه الجنود في حربهم ضد الإرهاب.
في نهاية الكتاب، يذكر كايل بأنه لم يغامر بحياته في العراق من أجل أن تصبح العراق دولة ديمقراطية ولا يهمه هذا إطلاقا، وليؤكد هذه النقطة يستخدم لفظا لا يليق بأن أكتبه وأنقله لكم لكنني أترك لخيالكم العنان، فيقول كايل: "غامرت بحياتي من أجل رفقائي، كي أحمي أصدقائي وأبناء شعبي، أرسلتني بلدي إلى هناك حتى لا يصلنا "القرف"... لم أحارب للحظة من أجل العراقيين، لا آبه بهم أبدا "...
يذكر كايل عدة مرات في كتابه بأنه متدين وأنه يؤمن بالله والسيد المسيح والإنجيل وأنه يعلم بأن الله سيحاسبه يوم الحساب. ويذكر كيف أنه قرر وضع وشم صليب الحروب الصليبية باللون الأحمر على يده "كي يراه كل الناس" ويعرفوا بأنه مسيحي وبالطبع رمز اللون الأحمر كان للدم. "كنت أكره الهمج الذين أحاربهم وسأظل أكرههم، إلى الأبد... لقد انتزعوا الكثير مني". وأخيرا يذكر كايل الذي يبدو مهذبا جداً في الفيلم مقارنة بما هو عليه في الكتاب: "أتمنى لو أنني قتلت أكثر"...
كنت أقلّب الصفحات بسرعة وخاصة أن الكتابة ركيكة وسطحية ومليئة بالكلمات البذيئة فحاولت أن أنهي قراءة الكتاب قبل أن تنفجر مرارتي. صورت عدة فقرات منه حتى لا أنسى بعض التفاصيل التي ذكرتها هنا ولأتأكد أن ما أنقله لكم هو فعلا ما جاء حرفيا في الكتاب.
بعد أن انتهيت من القراءه عدت لصورة الغلاف فشاهدت صورة كايل، الممثل الجذاب الطويل مفتول العضلات ذا الذقن المشذبة، وهو مرتديا لباسه العسكري والعلم الأمريكي يرفرف حوله. ولم يغفل غلاف الكتاب عن ذكر أن مبيعات ذلك الكتاب وصلت لمئات الآلاف من النسخ مما جعلني أشعر بالكآبة والإحباط. حيث إن آلاف الناس قرأوا هذا الكتاب وكثير منهم سيتأثرون بوجهة نظر كايل وستتكون لدى الكثير منهم أفكار مغلوطة عن العرب والمسلمين ناهيك عن الرواية المغلوطة للسبب الرئيسي وراء حرب العراق.
غادرت المكتبة وكلي يقين أن هذا الفيلم وهذا الكتاب والآخر الذي نشرته زوجة القناص كايل لتكمل مسيرته سيزيد من حدة الإسلاموفوبيا في أمريكا.
ملاحظة، يمكنكم البحث في موقع يوتيوب عن عديد من المقابلات التي أجريت مع مشاهدين بعد حضورهم الفيلم لمعرفة انطباعاتهم