"يجب أن تعودي"، أرسل إلي زوجي تلك الرسالة وأنا في وسط صحراء جنوب مصر في مدينة ملوّنة اسمها الجونة. لم يكن هناك داعٍ لأسال أي سؤال أو أطلب أي تفاصيل أخرى، فقد علمت أن زوجي يخبرني بطريقة غير مباشرة أن شقيقه أمين سيخسر معركته مع سرطان القولون في أي لحظة.
بدأت الاتصال بشركة السياحة التي اشتريت منها تذكرة العودة لأمريكا، كان موعد السفر الأصلي في العاشر من نوڤمبر، حيث كنت سأغادر فوراً بعد إصدار كتابي الجديد بعنوان "يوم الإثنين في أمريكا".
وبدأت رحلة البحث عن وسيلة لتقديم موعد مغادرتي أو شراء تذكرة جديدة كي أصل لمدينتي البعيدة بسرعة منذ يوم السبت، لكنني لا أدري لماذا قرر ربع سكان الأرض أن يصلوا لأمريكا في نفس الوقت الذي يجب أن أسافر فيه. ولسوء الحظ لم أجد أي مقعد لي حتى فجر الثلاثاء.
الطريق لمطار القاهرة الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل مزدحمة، كما كان المطار أكثر ازدحاما، لكن لحسن الحظ فإن الإجراءات كانت منظمة أمام مكاتب شركة الطيران الهولندية.
مررت بمكتب الجوازات حيث كانت فتاة شابة تمرّن شابا يرتدي ملابس الشرطة البيضاء وتشير له على الصفحات التي يجب أن يفتحها والتواريخ التي يجب أن ينتبه لها. كان الشاب بطيئاً جداً وبدا لي من نظاراته ذات العدسة السميكة بأن لديه مشكلة ما في النظر أو القراءة بسرعة. كانت هي في منتهى الصبر والهدوء رغم أنها كانت تحاول جهدها بأن يسرع وينتبه للأرقام والتواريخ.
ثم جاء دوري وقدّمتُ جواز سفري الأمريكي وقلت له مرحباً. فقال شيئا بلغة لا أدري إن كانت إنجليزية أم لا ثم تنبه لما قلته وقال مرحباً؟ أي بصيغة سؤال، أو بما معناه كيف أنتِ أمريكية وتجيدين اللغة العربية؟ فقلت له مرحباً أهلًا. فرد مرحباً. أخذ يبحث عن ختم الدخول ولم يكن الأمر معقّدا لأنني استخدمت جواز سفري الجديد لأول مرة في هذه الرحلة فلم تكن هناك أختاما عديدة وكاد أن يناولني جواز السفر ولكن الشابة نبّهته بأنه يجب أن يسأل عن اسمي الرباعي. فسألني عن اسمي الرباعي؟ أردت ان أقول له أن أوباما ذات نفسه لا يدري ما هو اسمه الرباعي، ولاحظت السيدة ترددي فقالت هل لديك جواز سفر آخر؟
نعم عندي جواز سفر آخر.
ما هو؟
أردني؟
فقالت وما هو اسمك الرباعي؟
هل تريدين الاسم الرباعي الأمريكي أم الاسم الرباعي الأردني؟
أريد أن أعرف أصلك. هكذا أجابت موظفة المطار. هنا صراحة بدأت ابتسم لأنها إذا أرادت الأصل فيجب أن أكون صادقة وأن اذكر أن الأصل فلسطيني وأنني حاصلة على الجنسية الأردنية بسبب عملي سنوات قليلة في التلڤزيون الأردني. لكنني لم أتبرع بمعلومة قد تعكّر مزاجها وتنبّهها للخطر الذي أمثّله فقلت لها بأن اسمي سمر هاشم محمد علي دهمش وبدأ الشرطي يكتب ويبدو أنه لاحظ بأنني أعطيته الاسم الخماسي فبدا مترددا ثم قال دشتي؟
لا، دهمش. أجبته وأنا أتمنى بان لا يكون من أصل صعيدي. ويشكّ باسم عائلتي ويعتقد أنني من قبيلة الدهامشة وأنني اختصرت الاسم إلى دهمش.
لكنني لم أرد أن أضيّع الفرصة لأن اذكر للشابة معلومة شيّقة وخاصّة أن مدونتي الأخيرة كانت عن عبور الحدود، فقلت لها وأنا حريصة أن أبدو مبتسمة حتى لا أعكّر مزاجها: "صراحة السؤال عن الأصل والفصل لا يحدث هذه الأيام إلا في المطارات العربية وهو شيء محزن فعلا". يبدو أنها استغربت تعليقي وسألتني لماذا واستطردَت بعدها "بالعكس إحنا بنحب العرب الأمريكان وحاجة حلوة الواحد يسأل عن الأصل". فأدركت أن أمامها عهد من الزمان كي تدرك أن هذا السؤال هو جزء من أسباب تفرّقنا كأمّة واكتفيت بأن سحبت جواز سفري وغادرت.
ركبت الطائرة ونمت لكن دون أن أغفو جيدا رغم أنني كنت مرهقة فكريا لأنني أريد أن أصل لأمريكا وأكون بجوار زوجي وأخيه وعائلته في هذا الوقت العصيب. ولأن الطائرة كانت باردة أيضاً ولأن الغطاء غير مصمم لركاب يزيد طولهم عن الخمسة أقدام فكنت أتفاوض معه طوال الوقت وأحاول أن أوزع أطرافه بين قدمي ويدي ويبدو أنني غفوت لمدة ساعة.
صحوت ربما على صوت شخير الرجل الذي يجلس خلفي فاعتدلت ونظرت إلى الشباك البعيد عني المفتوح على السماء وكان هناك لون جميل يجمع ما بين الأحمر والبرتقالي ولون السماء كان رماديا وواضح أن الشمس تحاول انتزاع النهار من الليل. وفجأة هيّء لي بأن أحدا ما قال "أمين" لكن دون أن أسمع صوتاً. فتعجبت لأنني لم أنطق حرفا ولم أستيقظ تماماً ولا أدري من أين جاء الاسم لكنني رأيت الوقت مناسباً كي أدعو لأمين شقيق زوجي بأن يخفف الله من آلامه.
انشغلت بتناول الفطور وهبوط الطائرة والسير مسافات طويلة جداً من أجل الوصول إلى منطقة مغادرتي لأمريكا وكانت من بوابة "د" ولما وصلت للمنطقة "د" لم أر أي بوابة بل ثلاثة طوابير تؤدي إلى خمسة أو ستّة مكاتب صغيرة مرتفعة تصل لكوع الإنسان وعلى كل واحدة منها يجلس رجل أو سيدة فأيقنت بأن هذه منطقة تفتيش أمنية وأن بوابات الإقلاع حتما في منطقة أخرى.
سيدة جراح أهلًا بك، لدي أسئلة أمنية هلا تفضلتي هنا؟
هل معك أي حقائب؟
نعم، اثنتين.
إلى أين وجهتهم النهائية؟
"فورت" وأكمل هو إلى "فورت مايرز" وهو يقرأ على شاشة الكمبيوتر. سألني من ساعدني بتوضيب الحقائب وإن كان أحدا ما قد أرسل معي شيئاً لأحضره معي على الطائرة. هنا تذكرت بأنني نسيت إحضار كعك العجوة الشهير الذي تخبزه أختي ولم أرغب بأن أتبرع له بهذه المعلومة فقلت له لا.
وصلت إلى قاعة تتوافر فيها خدمة الانترنت وبدأت اتابع عددا من الرسائل كانت تصلني إلى حسابات متعددة على تطبيق واتسآب وغيره، منها ما هو عائلي ومنها ما هو سياسي أو اجتماعي. ثم تجولت عبر تطبيق تويتر لأرى آخر ما يجري في العالم بينما كانت محطات التلفزيون في مطار أمستردام الذي لا أدري كيف أنطق أسمه أو اكتبه بالعربية يكرر مشاهد عن أطفال سوريين مع شريط يصف بأن مزيداً من الناس تهرب من القصف.
ثم ذهبت لتطبيق فيسبوك فوجدت سعود الأخ الأصغر لزوجي كاتبا "لا حول ولا قوة إلا بالله لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن أنعي أخي وأبي وصديقي وحتى توأم روحي. أخي أمين صادق الجراح في ذمة الله، رحمة الله عليك يا أمين وغفر الله ذنوبك". تجمدت ولم أفهم. فأعدت قراءة ما كتبه مرّة أخرى وتلفتت يميني فوجدت رجلا أسيويا يشاهد شيئاً ما على هاتفه بصوت عال ونظرت أمامي فوجدت رجلا آخراً يأكل فأردت أن أقول له شيئاً ما، أن أنطق بأي شيء حتى لو كان بحرف واحد. أردت أن يعرف الآسيوي بأنني أعاني الآن من صدمة كبيرة وأردت أن أقول للرجل الذي يأكل بشراهة أن يكفّ عن الأكل لأن هناك شيئاً مهمّاً حدث لي وأنني أريد أن أتكلم، أن أسمع صوتي، أن أقول لهم بأنني أحاول الوصول لأمريكا منذ ثلاثة أيام كي أكون بجوار زوجي الأخ الأكبر لأمين. أن أرى أمين لأننى شاهدته بالحلم يوم أن قال لي زوجي عودي لأمريكا فاعتقدت حينها بأنه سيتحسن. ذهبت لدورة المياه كي أغسل وجهي وشاهدت لدى خروجي منه سيدة مصرية كانت تجلس خلفي في الطائرة خلال الرحلة من القاهرة ففكرت بأن أذهب إليها وأخبرها بأنني قرأت الآن عن وفاة أمين وأنني كنت في طريقي لأمريكا كي ألحق به لكنني لم أستطع، كنت أود بأن أقول لها بأن لا تقول شيئاَ لأنني أريد فقط أن اسمع صوتي. لكنني بالطبع لم أفعل وعدت إلى جوار الرجل الشرق آسيوي والرجل الآخر الذي لا أدري ما أصله وفصله والذي توقف أخيرا عن تناول الطعام.
عدت لفيسبوك لأتأكد من أنني قرأت ما قرأت فعلا فتنبهت للتوقيت الذي أعلن فيه سعود عن وفاة أخيه وكان منذ حوالي ساعتين. فربطت بأنّه نفس الزمن الذي هُيّء لي بأنني سمعت اسم أمين، ربما كانت روحه تشقّ السماء ليكون في مكان لا يسأله أحد عن أصله وفصله ولا عن جواز سفره المؤقت ولا عن دفنه في أرض غريبة في غربة بدأها منذ أربع سنوات فقط بحثا عن جنسية يمنحها لبناته الفلسطينيات... ربما لحظتها ولأول مرة سيكون فقط إنسان، وسيسأله الخالق عن إنسانيته... لا عن أصله وفصله، أو عن فلسطينيته