وصلت مع أختي إلى شباك جوازات السفر في مطار زيوريخ، أنا بلا ڤيزا بسبب جواز سفري الأمريكي، واُختي التي تحمل الجنسية المصرية بڤيزا تطلبت أسابيع من الوقت وزيارة مكتب خارج السفارة السويسرية في القاهرة بالإضافة لعدة إثباتات وشهادات موثقة وضمانات بأنها ستزور سويسرا كسائحة وستدخل وتخرج في وقت محدد.
قدمت جواز سفري لمسؤولة الجوازات التي سألتني عن سبب الزيارة، ختمت جواز سفري وسلّمتني إياه. انتظرت إلى يمين الشباك لحين أن تختم أختي جواز سفرها، ابتسمت السيدة السويسرية وسألتنا إن كنّا معاً؟ فأجابت أختي بأننا أخوات. شردت السيدة لثوان وهي تنظر إلينا ثم ابتسمت وتمنت لنا إقامة سعيدة. لقد خمّنت أن السيدة حاولت بعقلها الأوروبي أن تستوعب لماذا جنسيتي أمريكية وأختي مصرية رغم أننا الاثنتين من مواليد الكويت ومع ذلك لم نقدم لها جواز سفر كويتي.
أخذنا القطار من الطابق السفلي للمطار بعد أن ساعدتنا فتاة مصرية محجبة تسكن في سويسرا، خمنت هذا من سهولة تعاملها مع جهاز التذاكر، بشراء تذاكر القطار المتوجه إلى مدينة بازل في شمال سويسرا حيث تعيش صديقتنا التي سنزورها.
توجهنا صباح السبت إلى فرنسا، هكذا بكل بساطة، تحديداً إلى قرية صغيرة شمال شرق فرنسا تحتفل بسوق معين يوم السبت يتوافد إليه السياح من عدة مناطق مجاورة. كنت وأختي في منتهى التشوق لعبور الحدود كي نرى كيف سيعاملها موظفو الجوازات خصوصاً بعد أن أمضت ثلاثة أسابيع تحاول الحصول على ڤيزا تسمح بزيارة معظم الدول الأوروبية. أما أنا التي كتبت عن تجربتي مع الحدود في كتابي بين الشرق والغرب عالم آخر أردت أن أرى كيف ساُعامل كأميركية بالورق الرسمي وكفلسطينية عربية مسلمة غير رسميا عند دخولي فرنسا. أعددت كاميرتي علّني أستطيع تصوير فيلما قصيرا لتجربة عبور الحدود تلك، مرّت الدقائق ولم يحدث أي شيء أو أرى أي شرطي أو ضابط أو جندي مدجج بالسلاح.
نحن الآن في فرنسا، أمامنا نصف ساعة لنصل للقرية. قالت لنا صديقتنا.
فرنسا؟ صرخت وأختي دينا في نفس الوقت. كيف؟ أين الحدود؟ أين ختم الجوازات؟ أين الضباط؟
فردّت صديقتنا مها التي كانت تقود السيارة: لقد عبرنا الجسر الصغير ولكن لم يكن هنك أي أحد كي يتفقد السيارة أو الجوازات، ألم تلاحظن المكتب الصغير إلى اليمين؟
لم نرَ أي شيء يوحي بأننا نعبر الحدود بين بلدين!
ربما لحظتها فهمت لماذا يغامر اللاجئون بأرواحهم من أجل عبور الحدود لأوروبا. فأنا مثلا مسجلة رسميا عبر ختم المطار بأنني دخلت إلى سويسرا لكن لا يوجد أي إثبات بأنني غادرتها وأنني دخلت إلى فرنسا وأنني من المحتمل بأن اختفي فيها إلى أن أشاء أنا، دون أن يعلم بذلك أحد.
هذا الشعور بالحرية، حريّة أن تعبر من بلد إلى بلد دون حواجز وتفتيش وأسئلة مهينة عن الأصل والفصل واسم العائلة والقبيلة والانتماء السياسي والديني والمذهبي الذي أراه كيف يفتت ما تبقى من أمتنا العربية المفتتة أصلا، لم يغادرني لحظة واحدة أثناء تجولنا في قرية صغيرة بسيطة على حدود فرنسا وسويسرا لا أذكر حتى اسمها.
والغريب أنني خلال دقائق معدودة انتقلت من بلدة بازل التي يتحدّث سكانها بلغة هي خليط من السويسرية والألمانية وتستخدم عملة الفرنك السويسري إلى قرية تتحدث الفرنسية بلكنة سويسرية وتستخدم اليورو وترفض أن أشتري أي شيء منها بالفرنك السويسري. كان كل هذا صعبا على عقلي المُركّب على الفواصل والحواجز والعوائق عند السفر إلا بالطّبع بين الولايات الأمريكية.
كنت أشعر بالذنب بأنه يمكنني فعل كل هذا بينما لا يستطيع معظم العرب السفر بسهولة بين بلداننا العربية فما بالك بين البلدان العربية وباقي العالم، ولا يستطيع الفلسطيني في غزة والضفة أن يفعل أي من هذا داخل وطنه.
لا تتخيلوا كم كانت مشاعري مختلطة لأنني كنت سعيدة جداً بجمال الطبيعة ونقاء الطقس وبساطة الحياة من حولي والتي عكستها ملابس السياح والسكان ونظافة الشوارع الضيقة. ناهيك عن جمال الشرفات والشبابيك الصغيرة جداً والتي تتدلى منها الأصص بمختلف الورود والنباتات الخضراء. كنت بذات الوقت أتعجب من عدم قدرة معظم شوارع بلادنا العربية الضيقة وشبابيكها الصغيرة أن تكون بهذه النظافة والجمال.
لن أوجّه اللوم للناس، بل أنني ألوم ظروفنا وأزماتنا السياسية التي لا بد وأنها قتلت روح الجمال فينا.
وللحديث بقية