إذا كنت تشاهد قنوات التلفزيون الأمريكية فقط، والتي تملكها شركات ربحيّة تبلغ ميزانية أي قناة منها ميزانيّات دول عدّة مجتمعة، ولا تستعين بأيّ مصادر أخرى للاطّلاع على الأخبارالعالمية، وإذا كنت أمريكي وليس لك أصدقاء عرب أو من فلسطين، إذن فستكون على يقين خاطئ من وقائع عدّة،أهمّها أنّ هناك دولة اسمها غزّة نالت استقلالها من إسرائيل عام ٢٠٠٥.
هذه الدّولة تحكمها منظّمة إرهابيّة اسمها "حماس"، سياستها النيل من دولة إسرائيل وإغراقها في البحر المتوسط، لذا تقوم حماس من فترة إلى أخرى بإلقاء صواريخ بعيدة المدى على الأحياء المدنية الآمنة في مدن
إسرائيل ـ الدّولة المجاورة لدولة غزة ـ هذه الحكومة التّابعة للمنظّمة الإرهابية انتخبها الشّعب، ولذا هو مؤيّد لسياساتها في النيل من إسرائيل.
وكمشاهد لمحطّات التلفزيون الأمريكيّة، فأنت تعلم أنّ إسرائيل دولة حليفة لأمريكا، وأنّها الدّولة الدّيمقراطيّة الوحيدة في الشّرق الأوسط، والمحاطة بدول ومنظمات عدائية مثل إيران وحزب الله، وجميعها تريد تدمير هذه الدّولة الصّغيرة، لأنّها تكره اليهود وادعائهم في ممارسة الديمقراطيّة.
تحصل دولة غزّة على الصّواريخ والأسلحة من إيران ومن منظّمات إرهابيّة عديدة عبر الأنفاق المصرية، ولا تستخدم هذه الأنفاق لإدخال الدّواء والطّعام مثلاً، وإنّ حكومة حماس لا تعنى بتنمية الاقتصاد لأنّها مشغولة بقضائها على إسرائيل. أرأيت ما يعرفه الشّعب الأمريكيّ عن قضية فلسطين وغزة؟!
لذلك، ليس من الغريب أنّ قصّة التّغطية للحرب الأخيرة على غزّة في قنوات الأخبار الأمريكيّة بدأت لحظة وقوع الصّواريخ على مدن إسرائيل ولم تبدأ قبلها بيومين أو أسبوعين عندما قتل الجيش الإسرائيليّ فتى صغيرا وهو يلعب كرة القدم أو الشّاب المعاق ذهنيا أو لحظات بعد خبر اغتيال أحمد الجعبري، بل بالعكس، التّغطية عن أحداث غزّة بدأت لحظة وقوع الصّواريخ واضطرار إسرائيل الرّد على العدوان، على حدّ قولهم.
وما إن تبدأ صواريخ وغارات ومجازر إسرائيل بقتل الأطفال والنساء تجد أنّ بين كلّ ثلاث كلمات ينطقها المذيع يذكر كلمة "حماس"، فإذا سقط صاروخ على بناية سيذكر المذيع أو المراسل بأنّ أفرادا من حماس كانوا يختبئون في هذه البناية، لذا لزم قصفها، وإذا قتلت أمّ في قصف ما فهي لا بدّ وأنّها كانت هي وأولادها يقومون بحماية مجنّد لحماس، وإذا مات طفل فلا بد أن والده من أعضاء منظمة حماس وكان يستخدمه للتمويه… كلّ تلك التّغطية للأخبار الخاطئة تمنع من تولّد أيّ تعاطف وحزن من قبل المشاهد المغيّب تاريخيّاً وسياسيّاً.. والأهمّ من كلّ هذا أنّ المشاهد لن يرى صورة جثة فلسطينية واحدة أو صورة أم ثكلى أو أب يصرخ!
والكلمة الثانية التي ستسمعها تتردّد في كلّ جملة في الموجز الإخباري هي دقّة الصّواريخ والطّائرات والقنابل في اختيار الهدف، أي أنّ حقيقة وقوع ضحايا مدنيين لا يمكن إلّا أن يكون له تفسير واحد، هو أنّ حماس تستخدم المدنيين كغطاء لعملياتها الإرهابية، لذا فالذنب ذنبها في مقتل المدنيين من نساء وأطفال وليس ذنب القنابل الذكيّة أو إسرائيل…
أخيراً، لا تخلوا جملة يذكرها المذيع أو المراسل من التعبير من أنّ الرّد الإسرائيلي يعتبر بمثابة دفاع عن النّفس، تأثير هذا التعبير على المواطنين يفوق الوصف، فهو يضع إسرائيل بموقف المظلوم ويعتبر ردّة فعلها الحربيّة مقبولة وشرعية للرّد على صواريخ حماس.
تخيّل نفسك مكان المشاهد الأمريكيّ الذي يسمع ويرى وجهة نظر واحدة وصور متكررة لبضعة إسرائليين يهربون بحثا عن الملاجئ وبالكاد يستمعون لوجهة نظر فلسطينيّة أو عربيّة أو يشاهدون مناظر قتل غزة، ماذا تتوقع منه إلاّ أن يصدّق كل ما شاهده على قنوات تلفازه.
هناك كلمة سرّ سحريّة مفقودة تماماً من أيّ تغطية إعلامية عن غزة والضفة الغربية والقدس، حذف هذه الكلمة يربك المستمع او يجعله مصدّقاً لكلّ ما يقال له ولكن ذكر هذه الكلمة له مفعول السّحر.
ذكر كلمة الاحتلال بإمكانه قلب التّغطية الإعلاميّة والنقاش والموازيين، فهذه الكلمة تعني بأنّ الجيش الإسرائيليّ قد انسحب من أراضي قطاع غزّة لكنّه يحوطها براً وجواً وبحراً، وإنّ الشّعب الفلسطينيّ شعب محتلّ له حقوق ضمنتها له القوانين والشرائع الدولية.
أسهل حجّة يذكرها العرب للتّعليق على هذه التّغطية الأمريكيّة أنّ اليهود يسيطرون على الإعلام الأمريكيّ ولا يخطر ببالهم أنّ معظم المراسلين والصّحفيين والمذيعين هم من غير اليهود. ما قام بالسّيطرة عليه الصّهاينة وحلفاءإسرائيل هو حقّ التّحدث عن القضية العربية الإسرائيليّة، واجتهادهم ومثابرتهم في متابعة ومحاورة ومناقشة كل من يحيد عن الرواية التي حاكوها والتي أخفوا منها كلمة السّر، الاحتلال!
ما حدث هذه المرة كان مختلفاً تماماً وأثبت بأنّه لا يهمّ من يسيطر على الإعلام الأمريكيّ ومن يثابر ومن يجتهد من الصّهاينة، فقد دخل عدد أكبر من الصّحفيين العرب والأجانب لغزّة عبر الحدود المصريّة ونشط الكثير من العرب والأجانب على شبكات التّواصل الاجتماعيّ لنقل صور الأطفال الجرحى والقتلى والمحروقين فكان التّلفزيون الأمريكيّ يخفي الصّور ونتناقلها نحن، يتحدّث للمتحدّث العسكريّ والحكوميّ الإسرائيليّ وننقل نحن أصوات الدّمار والانفجارات وأصوات أهل غزة.
لم يعد ممكناً في عصر المعلومات والتكنولوجيا هذا أن تختفي الحقيقة لوقت طويل مثل ما حدث في حرب غزة عام ٢٠٠٨، هذه حرب معلومات وتناقل أخبار وصور وحقائق تاريخيّة بالمجان،فما الذي يمنعنا من المساهمة في نشر الحقائق وتعميمها وحشد التّأييد الأمريكيّ والدوليّ لقضيتنا؟ كلّ ما يمنعنا هو تكاسلنا وعدم انتمائنا وقلّة حماسنا وجلوسنا بانتظار حل من الله لن يأتي لأنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم.
ملاحظة: مقال "سرّ الكلمة المفقودة" كتبته عام ٢٠٠٨ خلال أيام الحرب على غزة وأعدت نشره هنا لأنه يشرح ما هو مفقود في التغطية الإعلامية الأمريكية لأحداث مثل الحرب على غزة.